للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[(قل كل يعمل على شاكلته)]

ثم قال الله: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ} [الإسراء:٨٣] أي: جنس الإنسان في أصله، وإلا فإنه يوجد من عباد الله من هو شاكر ضال.

قال تعالى: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ} [الإسراء:٨٣]، أما جملة (ونأى بجانبه) فهي توكيد لجملة (أعرض)، فالإعراض -أيها الأخ المبارك- يكون أولاً بصفحة الوجه، وإذا ازداد الإنسان تكبراً، وعظم الطغيان في نفسه أعطاك ظهره، س فانتقل من الإعراض بصفحة الوجه إلى الإعراض بالكلية، وهذا معنى قول الله: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ} [الإسراء:٨٣].

ومثل هذه الآيات -وإن كانت تعرف ببعض البشر- إلا أنها تدلك من باب أولى على أنه قد يوجد في الناس من تحسن إليه، ويقابل إحسانك بالإساءة أو بالجحود.

أعلمه الرماية كل يوم فلما اشتد ساعده رماني وكم علمته نظم القوافي فلما قال قافية هجاني فإذا كان الناس في تعاملهم مع ربهم تبارك وتعالى يعرضون بعد الإنعام، فمن باب أولى أن يوجد منهم من يعرض عنك بعد أن تتفضل عليه بشيء من الإحسان.

{وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا} [الإسراء:٨٣]، ولماذا دب اليأس في قلبه؟ لجهله بالله، وإلا فمن عرف الله حقاً فإنه لا يمكن أن ييأس من رحمته، أو أن يقنط من روح الله، لكن ذلك القنوط واليأس دب إلى قلبه لجهله بالله؛ ولهذا قال الله: {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا} [الإسراء:٨٣].

ثم قال الله بعدها حتى يبين أن الناس ليسوا جميعاً على هذا المنوال والمنحى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} [الإسراء:٨٤].

التحليل اللغوي للمسألة: الشكل -أيها المبارك- بالفتح معناه: المثيل والنظير والضرب، ومنه قول الله جل وعلا: {وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} [ص:٥٨] في سورة ص.

أما الشكل بكسر الشين: فهي الهيئة.

قال سبحانه: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} [الإسراء:٨٤]، والألفاظ التي قالها السلف في معنى الآية تتباعد وإن كان المعنى قريباً في الحقيقة.

والذي يظهر لي -والعلم عند الله- أن الله يقول لهم: ينبغي لكل إنسان أن يناسب عمله سريرته، وينبغي أن يوافق عمله ما هو عليه من الأخلاق والطباع، وفي هذا حث لأهل الفساد، فإن كنتم تدعون استقامة أنفسكم فلتثبتوا ذلك بالأعمال الصالحة؛ لأن من صلحت سريرته وجب أن يكون شكله -أي: نظيره وضريبه ومثيله- من العمل موافقاً لتلك الشخصية.

قال تعالى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا} [الإسراء:٨٤]، وبعض العلماء إذا ذكر هذه الآية يتكلم عن قضية عفو الله جل وعلا ورحمته وفضله.