للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

(ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً)

ثم قال الله -وهي الآية التي نختم بها-: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:٨٨] فكما أن ذات الله لا تشبهها ذات، فكلام الله لا يشبهه كلام، وهنا قدم الإنس على الجن؛ لأنهم أفصح لساناً وأوضح بياناً، وإلا فقد قدم الجن على الإنس في مواطن كثيرة؛ لأنهم أسبق خلقاً من الإنس، ومن ذلك قوله سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:٥٦]، وقوله: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن:٣٣]، وهذا في معرض القوة.

يقولون: إن أبا العلاء المعري المسمي نفسه: رهين المحبسين، وهما: العمى، والمكث في البيت، وهو رجل كف بصره وهو صبي، فأقبل على العلم ينهل منه، وساعده على الحفظ كونه كفيفاً؛ لأن الكفيف لا يتشعب ذهنه، وهو لا يرى شيئاً يزاحم حفظه، فيكون أقدر من غيره على الحفظ، فأقبل على العربية وشعر العرب وتاريخهم وأيامهم حتى بلغ فيها شأواً بعيداً، وكان أحياناً يشوبه شيء من الإلحاد.

فيقولون: إنه ذات يوم أراد أن ينظم أبياتاً يعارض فيها القرآن، فذكر أبياتاً يقوم محورها على ذكر الفتاة، وأن الوالدين يحفظان الفتاة ويحرزانها، ثم لا تلبث أن تموت وهي صغيرة رغم حرص الوالدين على بقائها، فتنتقل من حرز الوالدين إلى القبر، وسمى القبر حرزاً حريزاً، ثم قال في آخر بيت: يجوز أن تبطئ المنايا والخلد في الدنيا لا يجوز ثم إنه تذكر قول الله في سورة هود: {وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود:١٠٤ - ١٠٥] فجثا على ركبتيه وبكى بكاءً طويلاً ثم رفع رأسه وقال: سبحان من تكلم بهذا في القدم! سبحان من هذا كلامه! وهذه شهادة معتبرة، لا لفضل الرجل نفسه فهو أقرب إلى الإلحاد، لكن لكونه رجلاً عالماً بالعربية، وإماماً في سبك الكلام، فالاعتراف من مثله له وضعه واعتباره في أن كلام الله جل وعلا لا يعدله كلام أبداً، فقد تلا قول الله: {وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود:١٠٤ - ١٠٥]، فبكى بكاء شديداً، وجثا على ركبتيه ثم رفع رأسه وقال: سبحان من تكلم بهذا في القدم! سبحان من هذا كلامه! والذي يعنينا -أيها المباركون- أن كلام الله جل وعلا لا يمكن أن ينازع ولا أن يعارض، ولا أن يلحق شأوه أحد كائناً من كان، وقد قال ربنا وهو أصدق القائلين: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا * وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ} [الإسراء:٨٨ - ٨٩] وعد، ووعيد، وأخبار، وأوامر، وشرائع، {مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} [الإسراء:٨٩]، لكن من غلب عليه الكبر والعناد فمن البديهي أن يعرض وأن يتكبر، قال: {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} [الإسراء:٨٩]، أي: رداً لقول خالقهم، وصداً عن هداية بارئهم، وهذا واقع أصلاً بقدر الله، مما يدل على أن الله جل وعلا خالق كل شيء ومالكه، وله تبارك وتعالى عليه السلطان الأعظم.