للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (قل الله أعلم بما لبثوا)]

ثم قال الله: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا} [الكهف:٢٦]، وهذا يوهم أنهم لم يعلموا كم لبثوا، لكن المقصود من قوله سبحانه: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا} [الكهف:٢٦] أن العلم ذاته درجات متفاوته، فليس علم الله جل وعلا مثل علم غيره في المدة التي لبثها أصحاب الكهف، فهؤلاء إنما ينقل بعضهم عن بعض وقد يصيبون وقد يخطئون، ولو وفقوا في الصواب لكانت الطرائق التي نالوا بها التوفيق ضعيفة أو قوية، أما علم الله جل وعلا فليس كعلمهم فإن الله علم بلبثهم هذه المدة قبل أن يخلقهم، فالله يعلم ما قد كان وما هو كائن وما سيكون، ويعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون، قال الله جل وعلا: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} [التوبة:٤٧]، وهم لم يخرجوا فيهم.

هذا معنى قول الله جل وعلا: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الكهف:٢٦]، وهذه اللام للملك، فما من غائبة في السماء والأرض إلا والله جل وعلا يعلمها.

{أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} [الكهف:٢٦] هذا أسلوب تعجب عربي، والمقصود: عظم سمع الله جل وعلا وبصره، وهذا أمر لا خلاف فيه بين أهل السنة.

{مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ} [الكهف:٢٦] اختلف على من يعود الضمير هل يعود على قريش المخاطبة، أو يعود على من في السماوات والأرض؟ والأظهر: أنه يعود لكل أحد فليس لأحد ولي من دون الله.

ثم قال سبحانه: {وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف:٢٦]، وهذه الآية أصل فيما يسمى بالفقه السياسي، والمعنى: أن التنظيم المعاصر ينقسم إلى قسمين: تنظيم إداري، وتنظيم شرعي، فالتنظيم الإداري لا يعارض الآية، فعله من أمرنا بالاقتداء بهم مثل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك لم يكن يعلم أن كعباً تخلف، حتى رجع إلى المدينة؛ لأنه لم توجد دواوين يكتب فيها أسماء الجند، فلما جاءت خلافة عمر رضي الله عنه وأرضاه أقر إيجاد الدواوين ليعرف من غاب ومن حضر، فصنع شيئاً لم يصنعه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا نظام إداري وليس شرعي، واشترى عمر دار صفوان بن أمية في مكة، وجعلها سجناً والدار قديمة من أيام الجاهلية، ولم يصنع هذا النبي صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر من بعده، لكنه أمر إداري استحسنه عمر.

فهذه أمور إدارية صحيحة ما لم تخالف نصاً صريحاً، وعليه أكثر قوام حياة الناس اليوم، وهذا لم يعنف الله فيه وتركه مفتوحاً لخلقه يصنعون بحسب ما يلائم كل عصر، وكاتخاذ عمر تاريخ الهجرة.

أما قوله سبحانه: {مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف:٢٦] فهذا الذي لا يجوز مخالفته، مثلما ما ينادى به في عصرنا من مساواة الرجل بالمرأة في الميراث، أو دعوى أن الطلاق ينبغي أن يكون عن طريق المحاكم فقط، وسلبه من الرجل، أو ما إلى ذلك من أمور متعددة كوصفهم الرجم وقطع اليد بأنهما وحشية، وهذا كله لا يجوز شرعاً القول به، ومن تبناه كفر، ولهذا قال الله: {وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف:٢٦].