للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم)]

لما أمر الله جل وعلا نبيه الكريم أن يعكف على القرآن ويستضيء بنوره، أمره كما أن يكون له إعانة في الباطن وهو قراءة القرآن يكون له إعانة في الظاهر وهي: الرفقة والصحبة الصالحة، قال له: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الكهف:٢٨].

قال العلماء في تأويلها: إن نفراً من سادة قريش عيروا النبي صلى الله عليه وسلم بصحبته وجلوسه مع فقراء الصحابة: كـ عمار، وصهيب، وبلال وأمثالهم من فقراء الصحابة الذين كانوا يعيشون في مكة، فأنزل الله جل وعلا على نبيه قوله: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ} [الكهف:٢٨] أي: احبسها مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي، فسر قوله: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الكهف:٢٨] بصلاة الفجر، وصلاة العصر، وفسر بغير ذلك، لكن أجمع ما يمكن أن يقال في تأويل هذه الآية إيمانياً: أن هؤلاء المباركين -سلك الله بنا وبكم سبيلهم- وهذه ينبغي تدبرها جيداً، أنهم في الغداة وفي أول النهار يدعون ربهم بأن يسألونه التوفيق لطاعته، ولا موفق إلا الله {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:٥] وبالعشي يستغفرونه عما حصل من تقصير خلال طاعتهم في ذلك اليوم؛ لأنه لا يمكن لأحد أن يعبد الله جل وعلا حق عبادته، سبحانك ما عبدناك حق عبادتك، وهذا نظيره في القرآن أن الله قال عن بعض أوليائه: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات:١٧] ثم ذكر أنهم مع ذلك كله ينهون وقتهم بالاستغفار قال الله جل وعلا: {وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:١٨] عما حصل من تقصير.

قال ربنا تبارك وتعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:٢٨].

قول الله جل وعلا: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف:٢٨]، ثم قال: {تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:٢٨] وهذه جملة حالية أي: حال كونك تريد زينة الحياة الدنيا، وهذا من تأديب الله لنبيه، وأن هؤلاء المعاندين المتكبرين إنما يريدون زينة الدنيا، ولا يحرصون على الآخرة، وقال له: {تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:٢٨] أي: في ترك هؤلاء الصالحين، ولم يذكر أسماءهم، وإنما ذكر الله صفاتهم حتى لا تصبح العبرة بخصوص السبب، وإنما العبرة بعموم اللفظ.

قال الله جل وعلا: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:٢٨] فهو ظاهر الطغيان متبع لهواه، غافل معرض عن ذكر الله، وهذه الأسباب قد توجد كلها في شخص، وقد يوجد بعضها، لكنها أياً كانت وجدت كلاً أو بعضاً، فهي صفات مقيتة تبعد عن الرب تبارك وتعالى، قد يتلبس بها الناس تلبساً كاملاً، فيكونون كفاراً، أو يتلبسون بها تلبساً جزئياً، فيكونون مؤمنين، لكنهم عصاة، أو مسلمين لكنهم فساق.