للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (المال والبنون زينة الحياة الدنيا)]

الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.

فما زلنا وإياكم نتفيأ ظلال سورة الكهف، وقد مضى القول في آخر اللقاء السابق عن قول الله جل وعلا: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} [الكهف:٤٥].

وقلنا: إن هذه الآية تبين أن لله جل وعلا كمال القدرة، وجليل الصنعة، وأنه جل وعلا قادر على الإحياء، قادر على الإفناء، قادر على الإعادة.

قال الله فيما بعدها: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف:٤٦].

قال علي رضي الله عنه: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ}: حرث الدنيا، {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ}: حرث الآخرة.

وقد جمعهما الله لأقوام.

أما التفسير الجزئي للآيات فإن الله جل وعلا ذكره في صدر الآية أن المال والبنين من أعظم العطايا التي تعطى في الدنيا، وأنا قلت: البنين؛ لأني عطفتها على المال، ولأنها منصوبة، ولم أقلها حكاية عن القرآن، يعني: ليس خطأ في القراءة.

قال الله: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ} [الكهف:٤٦].

البنون والمال كلاهما من زينة الدنيا باتفاق، لكن الله قدم المال؛ لأن المال تتعلق به نفس كل أحد بخلاف البنين فإنه لا يتعلق بهم قلب كل أحد، هذا الأمر الأول.

الأمر الثاني: أن الإنسان إذا كان كثير المال، ولا أبناء عنده فلا يقال عنه: إنه شقي، شقاوة دنيوية، لكن من كان عنده كثرة أبناء، ولا مال له ففيه نوع من رقة الحال، وكثرة العيال، وشقاوة المرء في دنياه من حيث الجملة لا من حيث قضاء الله وقدره.

فلهذا قدم الله جل وعلا المال، وإن كان حب الأبناء في النفس مقدم على حب المال، لكن هذا الذي من أجله قدم ذكر المال، فذكر الله اثنين من زينة الدنيا، وذكر الزينة يدل على أن هناك شيئاً من الضروريات غير الزينة؛ لأن الله قال: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا} [الكهف:٧]، والمعنى: أن ما على الأرض غير الأرض، فلما قال جل وعلا: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ} [الكهف:٤٦]، دل على أن هناك أشياء ألصق بالإنسان غير المال والبنين، وقد جمعها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (من أصبح معافى في بدنه، آمناً في سربه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها).

قوت اليوم الواحد، والأمن في الدور، والمعافاة في الأبدان هذه من أعظم النعم، لكنها تعين على طاعة الرب تبارك وتعالى، فإن رزق الإنسان مع هذه الثلاث مالاً وبنيناً فقد أتم الله عليه نعمة الدنيا، فما بقي عليه إلا أن يجعلها طريقاً للآخرة.

لما ذكر الله متاع الدنيا الفاني، وكان قد ضرب مثالاً محذراً فيه قال: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} [الكهف:٤٥].

ذكر هنا ما يفنى؛ لأنه لا المال ولا البنون يغدوان مع صاحبهما إلى القبر، فذكر الله ما يغدو معك إلى قبرك، فقال جل ذكره: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف:٤٦]، والأصل أن يقدم الصلاح هنا ولا تقدم الباقيات لكن الله ذكر الباقيات قبل الصالحات -مع أن الصالحات هي المستخدمة في القرآن كله- حتى تقابل قضية ما هو فان، ولا يجدي، ولا نفع منه في الآخرة: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} [الكهف:٤٦].

وقد قال بعض العلماء: إن الباقيات على وجه التخصيص: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وقد وردت بهذا المعنى أحاديث، لكن الأصح أن يحمل قول الله جل وعلا: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} [الكهف:٤٦]، على كل عمل صالح اجتمع فيه الشرطان: وهما: إرادة وجه الله، وموافقة شريعة محمد صلى الله عليه وسلم.

{وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف:٤٦]، خير أملاً: أمور الدنيا وحرث الدنيا لا أمل من ورائها؛ لأن عمله ينقطع بمجرد الموت، أما الأعمال الصالحة فسماها الله باقيات؛ لأن أمل نفعها بعد البعث أعظم وأجدى.