للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تفسير قوله تعالى: (ويسألونك عن ذي القرنين فأتبع سبباً)

قال الله جل وعلا بعدها: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا * إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا * فَأَتْبَعَ سَبَبًا} [الكهف:٨٣ - ٨٥].

ذو القرنين أنموذج لملك صالح بلا خلاف، لكن هل هو نبي أو غير نبي؟ هذه مسألة خلافية، وقد جاء في الحديث: (لا أدري أكان ذو القرنين نبياً أم لا؟) فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم توقف في نبوته، فمن باب أولى أن يتوقف أتباعه من العلماء، صلوات الله وسلامه عليه.

(يسألونك) وردت في القرآن كثيراً، وقد ردت على ألسنة الكفار، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ} [طه:١٠٥]، ووردت على ألسنة الكفار {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} [الإسراء:٨٥]، ووردت هاهنا: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ} [الكهف:٨٣]، والسائل: هم القرشيون بأمر من اليهود، ووردت: (يسألونك) من مجتمع المدينة الأول، الذي كان معاصراً للنبي صلى الله عليه وسلم، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة:٢١٩]، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة:٢٢٢]، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة:١٨٩].

لكن الفرق بين السؤالين، أن الأولى كانت أسئلة من كفار يريدون إثبات النبوة للمجادلة فيها، أما الأسئلة الثانية كانت أسئلة قوم مؤمنين يريدون أن يفقهوا الشريعة، وإن كانت هذه الأمة كما قال ابن عباس: أقل الأمم سؤالاً، وجملة ما في القرآن من أسئلة لا يكاد يتجاوز أربعة عشر سؤالاً.

قال الله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ} [الكهف:٨٣]، لم يذكر الله اسمهم ولا زمانهم ولا مكانهم؛ لأن المقصود من القرآن العظة والاعتبار، وليس التدوين التاريخي؛ والعظة والاعتبار تحصل من غير تدوين تاريخي، فينبغي ضبط هذه المسألة.

قال الله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ} [الكهف:٨٣] أي: يا نبينا {سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ} [الكهف:٨٣] أي: من بعضه، فلن أقول لكم كل شيء، سأقول لكم بالقدر الذي ينفعكم وتقام به الحجة عليكم، وإلا فما أصبح قرآناً، وإنما أصبح كتاباً تاريخياً، لكنه قرآن، وهذا فهم يجب أن تستحضره، أن تفرق ما بين من يقرأ التاريخ مستعيناً بالقرآن، ومن يفسر القرآن فيجعله تاريخاً، ويحق لك أن تقرأ التاريخ مستعيناً بالقرآن لكن لا تقول عليه: تفسير، لكن إذا فسرت القرآن لا تجعله تاريخاً، ولهذا صبغة كل فرد تظهر على تفسيره، فمن كان جيداً في الفقه إذا فسر القرآن أدخلك في أقوال الشافعي وأحمد ومالك وأبي حنيفة وغير المتبوعين كـ إبراهيم النخعي والليث بن سعد والطبري وغيرهما، حتى تصبح وكأنك تقرأ في كتاب فقه، أو يأتيك إنسان ويقول: هذه مسألة فرضية، ولها أوجه عند النحويين فكأنك تقرأ في شرح ابن عقيل ولا تقرأ في تفسير.

أو يأتيك إنسان تاريخي فيأتيك بالأمم، دولة بني أمية ودولة بني العباس، والحرب التي حصلت بين آل البيت وخصومهم، وما إلى ذلك، كأنك تقرأ في أحداث تاريخية صدرها الناس، ولا تقرأ في كلام رب العالمين جل جلاله، لكن إذا أردت أن تفسر القرآن فنجعل همنا الأول ما فيه من عظة واعتبار تدلنا على الواحد القهار، وإذا أردت أن أعرف تلك المسائل فأستشهد بالقرآن، فلا ضير، لكن لا أسميه تفسيراً ولا تأويلاً.

نعود فنقول: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ} [الكهف:٨٣]، جعله الله نموذجاً للحاكم الصالح، حتى لا يتعذر أحد أن الحكم لا يقوم إلا على البطش والجبروت، فأتى الله بحاكم صالح ينفذ منهج الله.

{إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ} [الكهف:٨٤]، والتمكين بمعنى: الاستمرارية، والمعنى: أن ذا القرنين لم يكن يملك خوارق العادات، ولا يملك معجزات، فلو جادلت أحداً من الملوك بصنيع ذي القرنين وقال: هذا أعطاه الله معجزات، فقل: ليست معجزات، الله يقول: {إِنَّا مَكَّنَّا} [الكهف:٨٤] تعني: الاستمرار، فبكونها تعني الاستمرار خرجت عن كونها من خوارق العادات، خرجت من كونها أمراً يفنى مباشرة، يعني: وهلة تظهر ثم تنتهي.

{إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} [الكهف:٨٤]، أي: الأسباب التي يقوم بها حكمه على الوجه الأمثل.

قال الله: {فَأَتْبَعَ سَبَبًا} [الكهف:٨٥]، أي: أخذ بتلك الأسباب، ولا يعقل، فإن السفينة لا تجري على اليبس، والذي يريد أن يبني مجداً يأخذ بالأسباب ويتوكل على الله جل وعلا، فنحن لسنا أنبياء يوحى إلينا، ولكننا عندما نطلب علماً فإننا نبحث عنه في مواطنه، وفي مظانه، وفي الكتب، ونثني الركب، ونراجع المسائل، ونقوم الليل لكي نستذكره، وكلما وجدنا فرصة بحثنا عن مظان العلم، ولسنا أنبياء يوحى إلينا، مع سؤال الله جل وعلا العون والتوفيق والسداد، فنأخذ بالأسباب، وكذلك سائر الملوك يجب عليهم ذلك.