للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (حتى إذا بلغ مغرب الشمس من أمرنا يسرا)]

ثم ذكر الله جل وعلا رحلات هذا الملك الصالح، فقال: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ} [الكهف:٨٦] أي: جهة الغرب.

قال الله: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا} [الكهف:٨٦] أي: وجد الشمس، {تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ} [الكهف:٨٦]، فهم بعض الناس، وألفت في هذا كتب أن الشمس تغرب في عين حمئة، وهذا غير صحيح؛ لأن الله يقول: {وَجَدَهَا} [الكهف:٨٦] بحسب نظر ذي القرنين، ليس بحسب غروبها، والإنسان إذا كان في جدة مثلاً وينظر فيرى الشمس تغرب في البحر، وإذا كان في صحراء نجد فسيرى الشمس تغرب في الصحراء، وإذا كان في جبال تهامة والحجاز سيرى الشمس تغرب في الجبال، كلٌ بحسب الموطن الذي هو فيه، حتى إنك في عرفة تراها تغيب في السيارات، من كثرة مد السيارات تراها تغيب وراء السيارات؛ لأن هذا بحسب الرؤية، فهو وجدها تغرب في عين حمئة.

نقول: إن ذا القرنين وصل إلى مكان جهة الغرب فيه عين حمئة، وهذا منتهى ما وصل إليه ذو القرنين من جهة المغرب، ثم إن الشمس تغرب بعد ذلك.

{وَوَجَدَ عِنْدَهَا} [الكهف:٨٦] أي: عند ذلك المكان، {قَوْمًا قُلْنَا} [الكهف:٨٦]، وهذا ظاهر أنه بوحي، فإن قلنا إنه نبي فإن الوحي مباشرة، وإن قلنا: إنه ملك غير نبي فيكون معه نبي، ولا يستبعد أن يكون معه نبي، كما كان مع طالوت نبي، فعن طريق ذلك النبي أخبر ذو القرنين.

{قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا} [الكهف:٨٦]، وحتى تكون ملكاً لا بد أن يكون لك أثر، وإلا لما صار هذا ملكاً، والعظيم يترك أثراً، لا يمشي على الأمور بالهين، وهذه قد ربما تفهم على غير وجهها، لكن {قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا * قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا} [الكهف:٨٦ - ٨٨]، هذا منتهى العدل وفي نفس الوقت، إن الملك يبقى إذا كان الفاسق والمجرم يخاف من سطوتك، والكريم الفاضل يرجو فضلك، يبقى الملك، تبقى إدارتك، تبقى سياستك، يبقى نفوذك في الأمر إذا كان ذوي الصلاح يؤملون منك، وأهل الفجور يخافون منك.

أما إذا كان أحد من الناس يحكم، فإن الفجار لا يخافونه، ولا الكرام يؤملون فيه، فلن يستمر ملكه؛ لهذا قال العبد الصالح: {قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ} [الكهف:٨٧ - ٨٨]، وهذا يدل على أن الظلم الأول مقصود به الشرك، {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا} [الكهف:٨٨].

ومنها يستنبط أن الأصل في الجهاد ليس المقصود به استرقاق الناس، ولا توسيع الرقعة، ولا اتخاذ الأراضي، ولا زيادة السلطان، وهذا كله لم يصنعه ذو القرنين، وإنما المقصود أن يدخل الناس في الدين، فإذا دخلوا في الدين تحققت الغاية من رفع السيف عليهم.