للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تفسير قوله تعالى: (قال ما مكني فيه ربي خير آتوني أفرغ عليه قطراً)

قال تعالى: {قَالَ مَا مَكَّنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} [الكهف:٩٥]، فحمد الله على ما أعطاه، ورفض الخراج، وقد كنت أحسب قديماً في أول علم التفسير أنه رفض الخراج؛ لأنه لا يريد أن يأخذ مع استغنائه، لكن الذي بدا شيء آخر، وهو أنه رفض الخراج حتى يستفيد من قوتهم البدنية، والمعنى: أنه لو قبل أن يأخذ الخراج لأوكلوا إليه بناء السد، فكان ذلك أشبه بالعقد بينه وبينهم وهم ينتظرون صنيعه، لكنه علم أنهم قوم لا يكادون يفقهون قولاً، ومن كان قوياً في بدنه، وغير مكتمل في عقله، لا يحسن بك أن تعدم الفائدة منه، فاستخدمه فيما يتفق مع شخصيته، فقال لهم: {قَالَ مَا مَكَّنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ} [الكهف:٩٥] أي: بقوة أبدانكم، وما أعطاكم الله من قوة وجلد وحمل أعينوني بها، أما العقول فقد قال الله من قبل: {لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا} [الكهف:٩٣]، {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ} [الكهف:٩٥] أي: وبين يأجوج ومأجوج {رَدْمًا} [الكهف:٩٥].

{آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} [الكهف:٩٦]، زبر الحديد يعني: قطع الحديد، والزبر في اللغة: الكتابة.

{آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} [الكهف:٩٦]، الصدفين: الجبلين العظيمين، وهنا فائدة نعرج بها، يقول الناس إذا لقوا أحداً على غير ميعاد: قابلته صدفة، وهذا خطأ، وأنا لا أتكلم عن خطأ شرعي، وإنما خطأ لغوي فمعنى صدف الرجل عن أخيه: أعرض عنه، فالصحيح أن تقول: قابلته مصادفة، يعني: على غير اتفاق، ولا يصح أن تقول صدفة، فصدفة بمعنى: إعراض، تقول: قابلته مصادفة، لا تقل: قابلته صدفة.

قال الله جل وعلا: {حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} [الكهف:٩٦]، ذكر الله نفخ النار، وذكر أنهم أفرغوا عليه القطر، والقطر هو النحاس المذاب.

غاية الأمر أنه خطط ونفذ بمعونة أبدانهم، وكمال عقله، واتحاد جيشه على أنه بنى في تلك الفجوة التي ما بين الجبلين العظيمين التي كان من خلالها تأتي قبائل يأجوج ومأجوج سداً منيعاً، مكوناً من نحاس مذاب، ومن حديد ومن صخر.