للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا وأن يحشر الناس ضحى)]

قال الله تعالى عن فرعون وهو يخاطب موسى: {قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى} [طه:٥٧]، فسمى تلك الآيات سحراً، وخص منها بالذات اليد والعصا، والعصا على وجه الخصوص؛ لأنها انقلبت على هيئة حية وثعبان.

وهذا القول أراد به فرعون إثارة عامة والغوغاء، أن المقصود الأسمى من رسالة موسى وهارون -في زعمه- ليس هو توحيد الله، وإنما إخراج أهل مصر من مصر، وقد كانت القوى السياسية العامة في أرض مصر جعلها فرعون مقسمة ثلاثة أقسام: القوة الإدارية السياسية جعلها فرعون بيد هامان: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا} [غافر:٣٦]، وكان وزيراً لفرعون، والقوة المالية الاقتصادية كانت بيد قارون، والقوة الإعلامية كانت بيد السحرة.

فقال فرعون هنا: {أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى * فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ} [طه:٥٧ - ٥٨]، حتى يؤكد أن ما جاء به موسى سحر، والسحر له حقيقة بلا شك، وإن كان يخفى على أكثر الخلق، لكن له حقيقة كما هو مذهب أهل السنة، والله جل وعلا ذكره في مواطن متعددة في كتابه، ونص على أن تعلمه كفر، قال الله جل وعلا: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:١٠٢]، وليس هذا مقام البسط فيه؛ لأننا نبقى أوفياء للآيات، لا نخرج عنها بأكثر مما هو لازم، فنقول: قال فرعون لموسى: {فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى} [طه:٥٨].

هل هو موعد زماني أو موعد مكاني؟ ظاهر كلام فرعون أنه موعد كلامي، لكن جواب موسى جعله زمانياً، وكأنه يضمن أن ينتصر، قال بعض العلماء في تفسير: ((مَكَانًا سُوًى) أي: مكاناً وسطاً، ليس ببعيد عني ولا ببعيد عنك، وأظنه بعيداً، وإنما المعنى: أي: مكان ظاهر لا خفية فيه، فحوله موسى موعداً زمانياً: {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} [طه:٥٩].

فأثبت موسى من قبل أن يبدأ العراك معهم ثقته بنصر الله، فقال: ((وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) وأعظم ما يمكن أن يستنبط في هذا المقام: أن دعوة الأنبياء دعوة واضحة لا تحاك في الخفايا، فليست الدعوة أحزاباً سياسية، ولا جماعات غير مرضية، ولا غير ذلك، وليس في دين الله رءوس وغير ذلك، وبروتوكولات خفية، وبروتوكولات يعلمها العامة وغير ذلك، إنما دين الله جلي واضح تعبد الله به الجميع، ولهذا لم يكن عند موسى عليه السلام شيء يخفيه في الدعوة إلى ربه، ولذلك قال: ((قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى)).

ويوم الزينة في ذلك الوقت وفي ذلك الزمان كان يوم عيد لهم لا عمل شاق لهم فيه، فهم في فسحة من أعمالهم، وعندما يكون الناس في فسحة من أعمالهم يكونون أقدر على أن يصلوا إلى المطلوب، وأن يأتوا إلى هذا الأمر الذي سيشهدون فيه الصراع، وبعض أهل العلم يقولون: إن الأعياد المنصوص عليها شرعاً: يوم الزينة كان لفرعون وآله، والعيد الذي ذكره الله جل وعلا عن قوم إبراهيم لما رفض إبراهيم أن يذهب معهم، وعيد الفطر والأضحى التي جاءت في السنة، التي جاءت بدلاً من يوم بعاث الذي كان عيداً للأنصار أوساً وخزرجاً في الجاهلية.

ومعلوم أنه كلما كثر حشر الناس، وكان الحضور في رابعة النهار ضحى، والكل سيشاهد ويرى، كان ذلك أدمغ لحجة فرعون، وأظهر وأبين لحجة موسى، وأنكأ لأعداء الله وخصومه.