للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (فأوجس في نفسه خيفة موسى ولا يفلح الساحر حيث أتى)]

قال الله تعالى: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} [طه:٦٧]، دخل الخوف إليه، رغم أنه يعلم أنه سحر، وهذا باعتبار بشريته، لكن هذا ليس مستقراً في قلبه، وإنما هو أمر عارض، وعليه تحمل كثير من الآيات المشابهة، فليس الخوف مستقراً في قلبه عليه السلام، وإنما هو باعتبار الجبلة وأمر عارض، والخوف الحاصل في هذا المجمع لا يمكن أن ينزع إلا بوحي عظيم من رب كريم، فأوحى الله جل وعلا إليه: {قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى} [طه:٦٨]، فأنت أعلى منهم؛ لأن ما قدموه تلفيق وتمويه، وما ستقدمه تأييد من العلي الكبير، وشتان ما بين الأمرين، فهذا تلفيق تمويه، يخدعون به الناس، أما أنت فما ستفعله هو أمر إلهي ومعجزة إلهيه من لدن ربك.

قال تعالى: {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه:٦٩].

قال العلماء: ذكر الله اليمين هنا من باب البركة، واليمين معلوم فضلها بالشرع، ومن دلائل فضلها أن من طرائق القرآن أن الله إذا أفرد وجعل مقابل الإفراد جمعاً دل ذلك على فضيلة المفرد، قال الله تعالى: {عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ} [النحل:٤٨]، وقال تعالى: {وَجَعَل الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام:١]، فأفرد النور وجمع الظلمات، وأفرد اليمين وجمع الشمائل ليبين فضل النور وفضل اليمين مقابل الظلمات ومقابل الشمائل.

قال الله تعالى: ((وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ))، هذا تذكير بالشيء القديم يوم أن كان بين يدي الله، فألقى الكليم ما أمره به البر الرحيم فألقى عصاه، قال الله: {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه:٦٩].

قول الله جل وعلا: ((حَيْثُ أَتَى))، نفي قاطع كلي لا استثناء فيه أن الساحر لا يمكن أن يفلح أبداً، وأكبر الدلالة على أن السحرة لا يفلحون أنهم أفقر الخلق، ولا يستطيعون أن يحموا أنفسهم من دورية، أو رجال هيئة، وهم بشر مثلهم، لا يملكون من الأعوان أحداً مثلهم مما يدل على ضعفهم وعجزهم، وحتى لو تظاهروا مرة أو مرتين أو ثلاثاً لا يلبثون أن يقعوا.

وما هو الذي حصل مع سحرة فرعون؟ قال الله في آية أخرى: {فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} [الأعراف:١١٧]، انقلبت هذه العصا إلى حية حقيقية، وليست شيئاً في أعين الناس مخيلة، بل انقلبت إلى حية حقيقية، وهذه الحية الحقيقية لديها القدرة على أن تأكل الحبال والعصي، وهي تراها على أنها حبال وعصي، لا تراها على أنها حيات، فأخذت تأكلها، ولا يعرف الشيء مثل صانعه، وهؤلاء السحرة ينظرون إليها على أنها حية، ويرون حبالهم وعصيهم على أنها حبال وعصي؛ لأنهم لا يسحرون أنفسهم، لكن تبين لهم قطعاً أن ما جاء به موسى ليس بسحر، وأنه مؤيد بربه، والآن ما الذي نفعهم بعد الله؟ تلك الكلمة الطيبة يوم أن أنصفوا موسى بقولهم: {إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى} [طه:٦٥].

وفرعون يسمع، لكن لشيء أراده الله، حتى يتم الله عليهم النعمة، وإذا أراد الله جل وعلا شيئاً هيأ أسبابه، فمثلاً: انظر إلى هاجر أين كانت؟ كانت خادمة عند ملك كافر، وسارة كانت من أجمل نساء العالمين، وهي أقرب الناس شبهاً بأمنا حواء، فجاء الفاجر ليفعل بها، ونحي إبراهيم، فجلس إبراهيم يدعو، وجلست سارة تدعو، وقد جاء في الحديث الصحيح أنها كانت تقول: (اللهم إن كنت قد آمنت بك، وبرسولك، وأحصنت فرجي إلا على زوجي فاحفظني)، فحفظها الله، فلما حفظها الله شل ذلك الفاجر وأعيق، فقال لها: ادعي لي ولا أضرك، فدعت له، فلما عاد واطمأن عاد مرة أخرى فرجعت إلى دعائها، فرده الله عنها، فدعت مرة أخرى، فقال لمن أتى بها: إنك لم تدخلني على امرأة، إنما أدخلتني على شيطان، ثم فتن بجمالها، وقال في نفسه أن هذا الجمال محال أن يخدم نفسه بنفسه، فقال: أعطوها هاجر، وهاجر جارية عنده وهو كافر ظالم، فأعطيت هدية لـ سارة، فخرجت هدية جارية لـ سارة تخدمها، ويشاء الله أن سارة يتأخر حملها، فهي قد حملت وولدت إسحاق، لكن تأخر حملها، حتى يصبح في قلب سارة حزن على زوجها إبراهيم أن ليس له ولد، فتطلب منه أن يدخل على جاريتها هاجر بعد أن وهبته إياها، فيدخل إبراهيم على هاجر فيولد من هذه الجارية التي هي بالأمس خادمة عند ملك كافر يخرج من هذا الرحم أب لسيد الخلق صلى الله عليه وسلم محمد بن عبد الله، وهو إسماعيل جد العرب وجد نبينا صلى الله عليه وسلم.

فانظر إذا أراد الله بعبد فضلاً كيف تجري الأقدار، ولو كان قدر الله أن سارة حملت بإسحاق لما طلبت سارة من إبراهيم أن يدخل على هاجر، لكن أخر حمل سارة من إبراهيم حتى يدخل إبراهيم على هاجر فيكون من هاجر إسماعيل، ويكون من إسماعيل محمد صلى الله عليه وسلم.

والمقصود أن هؤلاء رزقوا خطاباً حسناً، وحتى الخطاب الحسن هذا فضل من الله، لكن حتى تعلم أن الأمور لها أسباب تجري على نسق، والله يقول في هذا حقاً وفي أمثاله: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:٤٣]، وهذه نفائس العلم التي تبنى عليها أحداث الزمن، ومرور الأيام، وكيفية أخذ العبر، والدراية بأحوال الخلق، وأن هناك رباً لا رب غيره ولا إله سواه، يحكم في خلقه ما يشاء، ويفعل ما يريد.