للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (قال آمنتم له قبل أن آذن لكم)]

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أراد ما العباد فاعلوه، ولو عصمهم ما خالفوه، ولو شاء أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعل سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فقد أخبر الله جل وعلا عن سحرة فرعون أنهم آمنوا، قال تعالى: {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} [طه:٧٠]، وقد حدث هذا التلعثم في القول الآن لأن قضية الإيمان وردت بعدة صيغ، فقد قال بعضهم: {آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} [طه:٧٠]، وقال بعضهم: {آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف:١٢١ - ١٢٢].

وينبغي أن يعلم أن السحرة كثيرون، فطبيعي جداً أن يختلف بعضهم مع بعض في قضية ماذا يقولون، فهم جميعاً آمنوا بإله واحد هو رب العزة والجلال، لكن التعبير عن هذا الإيمان اختلف لتعددهم، فبعضهم قال: آمنا برب موسى وهارون، وبعضهم قال: {آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} [طه:٧٠] فقدم هارون باعتباره الأكبر، ومنهم من قال: {آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف:١٢١ - ١٢٢]، لكن الذي يجمع هؤلاء السحرة أنهم جميعاً آمنوا بالرب تبارك وتعالى.

هذا الأمر وقع على ملأ من الناس، وقد ذكرنا سابقاً أن موسى عليه الصلاة والسلام لا يخفي شيئاً عن الناس في دعوته، وقلنا: إن سمات الأنبياء وأتباعهم أنهم يدعون جهاراً ولا يخشون أحداً، بمعنى: أنه ليس هناك شيء يبيتونه لأنفسهم حتى يضعون دينهم في الخفايا، ولهذا قال لهم موسى: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} [طه:٥٩]، فكانت دعوته جهاراً، ولما حصل الموقف وألقى السحرة ألقى موسى عصاه كما أخبر الله: {فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} [الأعراف:١١٧]، ثم قال الله جل وعلا: {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} [طه:٧٠]، فلما آمنوا انقلبوا من كونهم في أول النهار كفرة أشراراً إلى كونهم أتقياء أبراراً، وهذا يدل على أن الهداية بيد الله.

ثم قال الله جل وعلا على لسان فرعون: {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} [طه:٧١]، هذا القول وردة الفعل الفرعونية إلى اليوم والناس في حياتهم الاجتماعية إذا رأوا رجلاً متغطرساً يقولون: هذا فرعوني، وهذا مأخوذ من دأب فرعون وقوله وسياسته في الناس، فما اكتفى أن يدعي أنه إله حين قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:٣٨]، وقد جاء في الأثر أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (ما أبغضت أحداً بغضي لفرعون يوم سمعته يقول: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:٣٨]).

ومن المعلوم أنه من كذب على الله هين عليه أن يكذب على الخلق، ولهذا قال فرعون: {آمَنْتُمْ لَه} [طه:٧١] الهمزة من أصل الفعل وهي همزة استفهامية، {قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} [طه:٧١] حتى الإيمان بالله في ظنه يحتاج أن يستأذنوه، ومعلوم أنه حتى لو استأذنوه لن يأذن لهم، وهم غير ملزمين شرعاً بأن يستأذنوه، لكن حتى لو استأذنوه فإنه لن يأذن لهم، وقوله هذا يدل على علوه وتكبره.

ثم قال: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} [طه:٧١] انظر كيف قلب الأمر وجعل موسى معلماً لهم، وهو يعلم أن موسى ما كان ساحراً طرفة عين، وأنه هو الذي بعث في المدائن حاشرين ليأتوه بكل سحار عليم، لكنه -كما قلنا- من تجرأ في الكذب على الله بدهياً أن يكذب على غيره.

ولهذا قال هرقل لـ أبي سفيان في قصة محاورتهم في أرض هرقل، قال له عن النبي صلى الله عليه وسلم: أجربتم عليه كذباً؟ قال: لا، فقال هرقل -بعقله لا بنقله-: ما كان ليترك الكذب على الناس ويكذب على الله.

فجعل ذلك أمارة على صدق نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم.

{إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} [طه:٧١]، هذا وصف من فرعون له، ثم جرى مجرى التهديد الفعلي بعد أن ذكر القولي فقال: {فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ} [طه:٧١]، وجاءت (أيدي) بالنصب لأنها مفعول به فظهرت العلامة على الياء، وهذا نوع من التهديد، {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ} [طه:٧١]، والصلب: هو الرفع والحمل، ويكون غالباً على ألواح وخشب، {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه:٧١]، ومعلوم قطعاً أن الصلب هنا إنما كان على جذوع النخل.

قال بعض العلماء كـ أبي حيان في البحر المحيط: إن فرعون نقر لهم في النخل وأدخلهم فيها.

وهذا القول منه ليفر من قول الله جل وعلا: على جذوع النخل)، لكن هذا القول أكثر أهل العلم على خلافه.

وإنما كان ينبغي أن يعلم أن حروف الجر في اللغة ينوب بعضها عن بعض.

هذا أمر، الأمر الثاني: قال بعض من يعنى باللغة في القرآن: أنه قال: {لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه:٧١] ليبين يسر الأمر عليه، يعني: أراد فرعون أن يقول: إن كوني قادر على أن أصلبكم في جذوع النخل هذا أمر هين علي؛ لأن كلمة (على) تعني الفوقية والاستعلاء، فكأنه يحتاج إلى من يعينه ليرتفع، فحاد عنها فرعون -أي: أنه حاد عن مثيلتها لأنها ليست في لغته، لكنه حاد مثيلتها في لغته- وإنما عبر بحرف الجر (في) ليبين سهولة الأمر عليه.

ثم قال: {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا} [طه:٧١]، يعني: أنا أو أنتم ((أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى)) [طه:٧١]، وهذه زفرات يطلقها ذلك الذي لعنه الله كردة فعل يائسة لما رأى إيمان السحرة.