للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى)]

منَّ الله على بني إسرائيل بعد ذلك بقوله: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى * كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} [طه:٨٠ - ٨١]، إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، وهذه ملاطفة من العلي الكبير في خطاب أولئك القوم، فنسبهم إلى جدهم الأكبر الذي ينسبون إليه، وهو نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله عليهم جميعاً أفضل الصلاة والسلام.

والرب تبارك وتعالى عندما ينادي عبادة، إما أن ينسبهم إلى أب عام كآدم، أو أب خاص كيا بني إسرائيل، أو يناديهم نداء كرامة، وهذا في أكثر الآيات المدنية، كقول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:١٠٤]، فهذا يسمى نداء كرامة، أو يناديهم نداء عاماً لا ينسبون فيه إلى أب ولا يذكرون فيه بكرامة، ومنه قول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج:١]، فقول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [الحج:١] نداء عام يدخل فيه البر والفاجر، والمؤمن والكافر، ولا يمكن أن نصطلح على أنه نداء كرامة؛ بل هو نداء عام.

فقوله: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ} [طه:٨٠]، يمن الله جل وعلا على بني إسرائيل بما كان من نجاتهم من فرعون، {قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ} [طه:٨٠] الذي هو فرعون، {وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} [طه:٨٠]، أي: جبل الطور، وهو جبل واحد، و (الأيمن) جاءت منصوبة و (الطور) جاءت مجرورة لأنها مضاف إليه، و (الأيمن) ليست صفة للطور، بل هي صفة للجانب؛ لأنها لو كانت صفة للطور لكان المعنى: أن هناك طوراً أيمن وطوراً أيسر، وطوراً في الوسط ولا يوجد إلا جبل طور واحد، لكن هذا الجبل -جبل الطور المبارك- له عدة جوانب.

وأصلاً كلمة أيمن ليست جهة ثابتة؛ لأن الثبات في اليمين واليسار غير وارد، فمثلاً أنا أجلس الآن على هذا الكرسي وهذه الجهة عن يميني، لكن لو حولت الكرسي فستصبح هذه الجهة عن يساري، فالأيمن غير وارد، لكن الله جل وعلا يخبر عن الجهة التي جاء منها موسى عليه الصلاة والسلام.

إذاً: الأيمن صفة لجانب، وجانب نكرة، والأيمن معرفة، لكن الذي جعل جانب معرفة هو الإضافة، فلما أضيفت كلمة جانب إلى كلمة الطور اكتسبت التعريف، فلما أضحت معرفة حق لها أن توصف بكلمة الأيمن.

وهنا مسألة نبه عليها بعض العلماء وذكرها الدكتور صالح العايد في كتاب نظرات لغوية نقلاً عن صاحب البرهان في علوم القرآن، وهي قضية دقيقة جداً استنبطها العلماء في قضية جانب الطور الأيمن، فالله جل وعلا ذكر هنا أنه واعد موسى جانب الطور الأيمن، لكن لما تكلم عن نبيه صلى الله عليه وسلم قال: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ} [القصص:٤٤]، فلماذا لم يذكر الله تعالى الأيمن هنا؟ قالوا: لأنه يوجد هنا نفي، وكملة (الأيمن) فيها تشريف، لكن كلمة (الغربي) لا تعني شرفاً بذاته، نقول: جهة اليمين جهة شرف، لكن الغربي والشرقي والشمال والجنوب ليس فيها في ذاتها شرف، فلما أراد الله النفي عن نبيه ملاطفاً لنبيه لم يصفها بالأيمن؛ لأنه لو وصفها بالأيمن فيكون قد نفى اليمن عن نبيه، والله لا يريد هذا، فقال جل وعلا: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} [القصص:٤٤]، إجلالاً وإكراماً وملاطفة لرسوله صلى الله عليه وسلم.

وقبل أن أكمل هذا أقول: علم التفسير مواهب يعطيها الله جل وعلا من يشاء، والناس قدرات، ويظهر أثر كل ذي قدرة في تفسيره، فمن كان ذا قدرة في الاستنباطات اللغوية سيظهر هذا جلياً في كلامه، ومن كان قوياً في الفقه مثلاً سيظهر هذا في كلامه وهكذا، فقبل أن تبحث عن تفسير الآية ابحث عما تريده من الآية، فإذا بحثت عما تريده من الآية سيسهل عليك أن تبحث في كتب التفسير، لكن هذا لا بد أن يسبقه أن تكون ملماً بكتب التفسير، وبعضها يظهر من عنوانها، فالكتاب الذي ذكرناه اسمه: نظائر لغوية، فواضح أنه يبحث في اللغة، وأحكام القرآن لـ ابن العربي واضح أنه يتكلم في الفقهيات، فأحياناً من العنوان يظهر، وأحياناً من كثرة المطالعة والدربة تستطيع أن تعرف مناحي المفسرين فيسهل عليك بعد ذلك أن تصل إلى مرادك.

نقول: قال الله جل وعلا: {وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} [طه:٨٠]، يكاد أهل العلم رحمهم الله يجمعون على أن المقصود بالمنَّ شيء أنزله الله من السماء عليهم كالطل يجدونه على رءوس الأشجار أشبه بالعسل الأبيض، يتجمع كالصمغ ثم يأخذونه، وهو نوع من الحلوى رزقه الله جل وعلا بني إسرائيل، وقالوا في السلوى: إنها طير السمان المعروف.

هذا ما ذكروه، لكن جاء في الحديث أن الكمأة من المن، والذي يظهر -والعلم عند الله- أن ما قاله الأفاضل الأكابر في هذا قوي جداً لتظاهرهم عليه، ومن الصعب أن يخطئ الإنسان جمعاً، لكن فيما يبدو أن المنَّ هو الكمأة التي تظهر الآن من غير ما زرع، تكون مقرونة بوقت المطر فهذه منه؛ لأنه ليس فيها جهد لأحد؛ فلأجل ذلك غالب الظن أنها مقصودة إن لم تكن هي كلها، فتكون في الحديث بيانية أو على الأقل نوعاً مما أخرجه الله جل وعلا لبني إسرائيل.

والمقصود: أن بني إسرائيل عندما خرجوا مكثوا في الصحراء فاحتفى العلي الكبير بهم إكراماً لأنبيائهم، ولما أراده الله جل وعلا من ابتلائهم أنزل عليهم المن والسلوى، قال الله جل وعلا: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} [طه:٨٠]، وهذا أمر للإباحة {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ} [طه:٨١] بتجاوز الحد {فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} [طه:٨١]، ثم قال الله تذييلاً لهذا الأمر: {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} [طه:٨١]، والهوى هنا المقصود به: السقوط المرُيع، والمقصود به الهلاك الفظيع لكل من حل عليه غضب الله تبارك وتعالى.

وهنا أتوقف قليلاً لأقول: إن كلمة (هوى) في القرآن وردت بمعنى السقوط، قال الله جل وعلا: {أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:٣١]، وهنا نستبعد تفسير بعض العلماء لقول الله جل وعلا: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم:١]، بأن المقصود به نزول القرآن، فإن بعض أهل العلم يقول: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم:١] المقصود أن القرآن نزل منجماً، فيجعل (هوى) بمعنى نزل، لكن استخدام لفظة (هوى) في القرآن لا يساعد على هذا، ومنه هذه الآية: {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} [طه:٨١].