للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تفسير قوله تعالى: (وعنت الوجوه للحي القيوم فلا يخاف ظلماً ولا هضماً)

ثم قال الله: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} [طه:١١١]، وجوه من؟ وجوه الخلائق كلها {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ}، وقد قال بعض أهل العلم: إن الحي القيوم اسمان متلازمان هما اسم الله الأعظم، وقد ورد هذا الاسم الكريم المتلازم في القرآن ثلاث مرات، ورد في صدر آية الكرسي: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:٢٥٥]، وورد في فاتحة آل عمران {الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران:١ - ٢]، وورد في هذه الآية الكريمة التي بين أيدينا ((وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ)) [طه:١١١]، وقد قال جمع غير قليل من أئمة الدين: أنه اسم الله الأعظم، والعلم عند الله.

وقوله: ((وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا))، الظلم إذا قاله الناس اليوم ينصرف إلى الجبروت وإلى سلب أموال الناس، وهذا حق؛ لكن إياك أن تصرفه في هذا الموقف صرفاً أولياً يتعلق بالناس؛ لأن هذا ينافي أصلاً فهمك للقرآن؛ لأن الله جل وعلا محال أن يذكر هذه المقدمة في العظمة كلها وخشعت الأصوات للرحمن، ولا شفاعة إلا لمن أذن له الرحمن، وعنت الوجوه للحي القيوم، ثم يتلكم عن قضية أن عبداً ظلم عبداً، لكن لا يوجد ظلم أعظم من أن تجعل لله نداً وقد خلقك، فأول ما يصرف قوله: ((وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا)) إلى أهل الإشراك.

ثم قال الله: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} [طه:١١٢]، (وَمَنْ يَعْمَلْ) شرطية ((مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ))، فالإيمان متلازم مع العمل الصالح، وقد يعمل الإنسان عملاً صالحاً من حيث الجملة لكنه غير مؤمن، كما يصنع بعض الغربيين الكفرة من الرفق بالحيوان، أو من قضية إغاثة الملهوف؛ فهذا لا ينفع يوم القيامة.

وقوله: ((فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا))، لا يخاف ظلماً؛ لأن الله جل وعلا نزه نفسه عن الظلم، وقد جاء في الخبر الصحيح عن علي رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحك، قال: فقلنا يا رسول الله! مم تضحك؟ قال: أضحك من مجادلة العبد ربه، فإنه يقول يوم القيامة: يا رب! لا أقبل إلا شاهداً من نفسي، فيختم على لسانه فتشهد عليه جوارحه، فإذا شهدت عليه جوارحه خلي بينه وبين الكلام، فيقول: سحقاً لكن وبعداً فعنكن كنت أناضل)، أي: عنكن كنت أدافع.

قال بعض أهل العلم: حتى جوارحه التي كانت له في الدنيا عوناً على المعصية لما رأت يوم القيامة كانت شاهداً عليه عند ربه، فجوارحه قدمت عظمة الله على علاقتها بصاحبها، ولهذا قال الله جل وعلا: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:٦٥].

وقد اختلف العلماء في السبب الذي من أجله يختم على الأفواه، فقال بعض أهل الفضل وينسب هذا إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: أن السبب أنهم ينطقون بكلمة الكذب، قال الله جل وعلا عنهم أنهم قالوا: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:٢٣]، فإذا قالوها يختم على أفواههم، وذكرت أسباب أخرى في أن الله جل وعلا يختم على أفواههم، فقيل: إن شهادة غير الناطق من الجوارح أعظم من شهادة الناطق، أي: من شهادة جارحة اللسان، وقيل غير ذلك.

يقول الله جل وعلا: ((وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا))، فلا يزاد عليه ما لم يعمله، ولا ينقص منه ما قد عمله، فالظلم هنا يفسر بالزيادة، وقد فسرناه بالزيادة ليقابل كلمة (هضماً) وهو النقص.