للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك)]

قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة:٤].

هل هذا ذكر لقوم آخرين أو وصف آخر لقوم أولين؟ إذا قلنا: وصف آخر يصبح هؤلاء المتقون: (يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) (يُقِيمُونَ الصَّلاة) (مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) (يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ) (وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) (وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) هذه صفات لموصوف واحد.

الحالة الثانية: وهو اختيار ابن جرير: أن يكون هؤلاء قوم آخرون، والمعنى عند من قال بهذا الرأي: إن المؤمنين قسمان: مؤمنو العرب وهم من ذكر في الأول، ومؤمنو أهل الكتاب وهم من ذكر في الثاني، ودل عليه: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} [البقرة:٤]، وممكن أن يجاب عنه بأن المؤمنين الآن يؤمنون بما أنزل من قبل، لكن قصد أنهم آمنوا بما أنزل من قبل أن ينزل عليك الإيمان به، هذا تحرير المسألة.

فاختيار ابن جرير أنها ليست أوصاف لموصوف واحد، وإنما هم قومان، واستدل عقلياً منطقياً على صحة قوله فقال: ما بعدها يدل عليها، فقد ذكر الله بعدها أهل الكفر وقسمهم فريقين: كافر أصلي ومنافق فقال: كما قسم الله أهل الكفر إلى قسمين: كافر أصلي: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة:٦]، ومنافق: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:٨] كذلك هنا قسم المؤمنين إلى قسمين: مؤمن من العرب، ومؤمن من أهل الكتاب من قبل.

والحق أن هذا الرأي له وجه كبير من الصحة، وهو قوي من جهة الاستدلال النقلي والعقلي، ولا تعارض معه مع الأول، {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [البقرة:٤] وهو القرآن، {وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} [البقرة:٤] أي: الكتب، ولو قلنا: إن المقصود به أهل الكتاب لا يعفينا هذا من أن نؤمن نحن بما أنزل من قبل، وهذه مسألة مهمة جداً، والله جل وعلا قال: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة:٢٨٥] فنحن نؤمن بالكتب كلها التي أنزلها الله ما سمى منها وما لم يسم، ونؤمن بالرسل كلهم ما أخبر الله عنهم ومن لم يخبر.