للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل)]

الحمد لله رب العالمين، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: ففي هذا اللقاء المبارك نتبع ما كنا قد تكلمنا عنه من تفسيرنا لسورة البقرة، وقد انتهينا في اللقاء الماضي إلى قول الله جل وعلا: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ} [البقرة:٨٤] والآيتين اللتين بعدهما وهما في الحديث عن بني إسرائيل.

وقد مر معنا أن الله جل وعلا ذكر بعضاً من شنائع اليهود ثم أردفها ببعض أخبار اليهود المعاصرين لنبينا صلى الله عليه وسلم.

ومنها أن اليهود انقسموا إلى طائفتين في حرب بعاث بين الأوس والخزرج، فكل طائفة منهم مالأت إما الأوس وإما الخزرج، فنشأ عن هذا ضرورة اقتتال طائفتي اليهود؛ لأن كل فرقة منهم تبعت طائفة، ثم إن اليهود بعد أن وضعت الحرب أوزارها فدت أسراها، واليهود محرم عليهم أن يقاتل بعضهم بعضاً كما أنهم مأمورون بشريعتهم أن يفدوا أسراهم، فاليهود بصنيعهم هذا خالفوا تعاليمهم؛ لأنهم قتلوا بعضهم واتبعوا شرعهم بفداء أسراهم، وهذا هو الذي نقمه الله جل وعلا عليهم بقوله تبارك وتعالى: {أََفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة:٨٥]، هذا هو معنى الآية، وقلنا: إن استصحاب التاريخ والأحداث معين لفهم القرآن، بل إن بعض آيات القرآن محال فهمها إلا بمعرفة سبب النزول وذكر الخبر وإلا لا سبيل إلى فهمها؛ لأن فهمها لا يتوقف على حل المفردات اللغوية، لكن لابد من خبر يوضح سبب النزول، وسيأتي لهذا أمثلة.

ثم قال الله جل وعلا بعد هذه الآيات: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ} [البقرة:٨٧] قد مضى الحديث عن موسى، لكن جاء ذكر موسى هنا تمهيداً لا تأكيداً، فقال الله جل وعلا: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} [البقرة:٨٧] المراد بالكتاب هنا التوراة.

ثم قال جل وعلا: {وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ} [البقرة:٨٧] أي من بعد موسى {بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ} [البقرة:٨٧] هذه الآية تحدث عند طالب العلم نوع إشكال؛ لأنه معلوم أن أكثر أهل العلم على أن الرسول من أوتي بشرع جديد بخلاف النبي الذي يسوس أمته على شرع غيره، أين الإشكال؟ الإشكال أن الله قال: {وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ} [البقرة:٨٧] أي من بعد موسى {بِالرُّسُلِ} [البقرة:٨٧]، فأطلق على أنبياء بني إسرائيل أنهم رسل ولم يأتوا بشرع جديد؛ لأنه لا كتاب مشهور لدينا بعد التوراة إلا الإنجيل، والإنجيل أفرده الله جل وعلا بقوله: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ} [البقرة:٨٧]، وفي آيات أخر أن الله آتاه الإنجيل، هذا هو الإشكال! بعض العلماء يقول: يرفع مقامات بني إسرائيل؛ لأنها تفريع عن التوراة إلى مقام الرسل، وهذا جواب غير علمي، وأرى أن الجواب العلمي أن يقال: ليس الأمر حصر الرسل في بني إسرائيل، وإنما المقصود الحقبة الزمنية التي ما بين موسى وعيسى عليهما السلام، فقد بعث الله فيها رسلاً ليس إلى بني إسرائيل ولكن إلى من جاورهم من أهل بلدان أخرى كإلياس وذي الكفل، فالمعنى: {وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ} [البقرة:٨٧] زمناً لا أمة، أي جاءت رسل ما بين موسى وعيسى لكنهم ليسوا مبعوثين إلى بني إسرائيل، ولو كانوا مبعوثين إلى بني إسرائيل ويسوسون بني إسرائيل بالتوراة لا يطلق عليهم أنهم رسل.