للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تفسير قوله تعالى: (وجعلوا له من عباده جزءاً)

قال ربنا: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ} [الزخرف:١٥]، ما زال الخطاب متوجهاً لكفار قريش، (وجزءاً) هنا الصواب أنها بمعنى: حظ ونصيب وقسم، إلا أنه ورد عن إمامين من أئمة اللغة وهما: المبرد والزجاج، وقدمنا المبرد لأنه أقدم ظهوراً من الزجاج، وله كتاب مشهور اسمه (الكامل في الأدب) واسم المبرد محمد بن يزيد، وكان له حساد، وقد قيل فيه أبيات يراد بها منقصته.

هذان العلمان من علماء اللغة قالوا: إن جزءاً في اللغة بمعنى: بنت، وأتوا بشاهد شعري، ومن رد عليهما لم يطعن في إمامتهما في اللغة؛ لأن إمامتهما لا تقبل القدح؛ فهما متفق على إمامتهما في اللغة، فيكون الطعن ليس في ذاتهما لكن فيما قالاه أو فيما نقلاه، فيقال: إن هذا البيت مصنوع وليس قديماً، فإذا كان مصنوعاً وليس قديماً فلا يصح الاحتجاج به، وممن حمل راية إبطال ما زعماه الزمخشري في الكشاف، فقد أبطل ما زعماه من أن جزءاً بمعنى: بنت، والحق -بحسب دراية الإنسان البسيط- أنه يبعد جداً في علم اللغة أن يكون جزءاً بمعنى: بنات، أما المعنى: فصحيح، وسيأتي، لكن اللفظ (جزءاً) بمعنى: بنات غير وارد، ورد في القرآن جزء وبعض؛ الجزء شيء يمكن تحديده يمكن إخراجه يمكن انفكاكه، وأما البعض فلا يمكن تحديده، فمثلاً: القرشيون زعموا أن الملائكة بنات الله، فسهل جداً أن نميز الملائكة عن الإنس والجن، لكن كلمة بعض تأتي في الأشياء الممزوجة التي يصعب تحديد الفوارق بينها، قال الله: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا} [الزخرف:١٥]، وأنا أتوقف هنا في قضية الملائكة بنات الله؛ لأن سيأتي التفصيل فيها.

{إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ} [الزخرف:١٥] قال بعض أهل التفسير: إن الإنسان هنا عام أريد به الخاص وهم كفار قريش، لكن الصواب إبقاؤه على ما هو عليه، فنقول: إن الإنسان في أصله كفور مبين؛ لأن الله جل وعلا ذكر هذا في أكثر من موضع وأكثر من آية، لكن نبقى على أن أول المخاطبين به وأول ما ينصرف هذا الوصف إليهم هم كفار قريش، {إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ * أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ} [الزخرف:١٥ - ١٦].

وهناك مصطلحات أحياناً يستخدمها أهل التفسير ومصطلحات يستخدمها أهل النحو، فأهل التفسير يتأدبون أكثر؛ لأنهم يتعاملون مع ألفاظ قرآنية، وأما النحاة فلا يتوخون الأدب؛ لأنهم يتعاملون مع أقرانهم، مع أئمة في اللغة أو مع شعراء أو مع خطباء، فلا يكونون مطالبين بالتأدب كما هو مطالب به أئمة التفسير.

{أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ} [الزخرف:١٦] أهل التفسير يقولون: إن الميم هنا صلة؛ تأدباً مع الله، وأما النحويون فيقولون: إن الميم هنا زائدة، فإن أسميناها زائدة كما قال النحويون أو أسمينها صلة كما قال المفسرون فالمعنى واحد، ومقصودهم أنها يراد بها التوكيد والاستفهام للاستنكار.

قال سبحانه: {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ} [الزخرف:١٦]، نكر البنات وعرف البنين ليطابق حال البنين والبنات عند العرب، {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ} [الزخرف:١٦]، وأنا هنا أؤكد على اللغويات، وأما المعاني فنأتي لها في قول الله تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} [الزخرف:١٩]، في نفس السورة؛ حتى لا يتكرر الأمر.