للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الكلام عن هاروت وماروت]

قبل أن أطوي صفحة الحديث عن السحر يتكلم الناس كثيراً وبما هو موجود في بطون الكتب، ولولا أنه موجود في بطون الكتب لما عرجت عليه، وهو قضية أن هاروت وماروت عصيا الله جل وعلا، وبعض أهل الفضل على جلالة قدرهم يقبلون تلك المرويات فيشيعونها، وأنا في الدرس هنا بين أحد أمرين إن ضربت عنها الذكر صفحاً ولم أقلها لربما شاهدنا مشاهد كريم فقال لأخيه أو لجاره: إن الملكين هاروت وماروت عصيا الله، فإن قال له من بجواره: إن الشيخ لم يقلها ظن أن المسألة إما جهل أو إقرار، فكشف الأمر يكون أفضل في هذا السياق، فنقول: المرويات تنص على ما يأتي إن الناس في زمن إدريس قل عملهم فلم يرفع لهم كثير عمل صالح، ولهذا ورد أن إدريس كان يرفع له عمل صالح بمقدار عمل أهل زمانهم كلهم، فالملائكة في الملأ الأعلى عاتبت بني آدم على هذا، فذكر لهم الرب جل وعلا أن بني آدم طبعوا على الخير والشر، وليسوا مثلكم -أيها الملائكة- غير مطبوعين على الشر، وأنكم لو طبعتم على طبعهم لعصيتم، فاختارت الملائكة ملكين - وهذا حسب الرواية - هما هاروت وماروت، فركب فيهما التركيب البشري وأهبطا إلى الأرض، فلما أهبطا إلى الأرض تعلقا بامرأة يقال لها بالعربية: زهرة، وبالفارسية: مذخيت، فلما تعلقا بها بتركيبهما البشري طلبت منهما الزنا والشرب والقتل ففعل ذلك هاروت وماروت، ثم ندما، فلما ندما علماها كيف تصعد إلى السماء وكيف تنزل، فلما علماها -وفق الرواية- صعدت إلى السماء ثم نسيت، الذكر الذي علمها الملكان، فمسخت في السماء كوكب الزهرة المعروفة، ولهذا عند بعض الأمم كالإغريق يجعلون الزهرة إله الحب ورمز للحب! أما الملكان فندما وتابا إلى الله وتشفعا بإدريس -وكان حياً- أن يدعو لهما، فقبل الله دعاء إدريس لهما على أنهما يعذبان في الدنيا ولا يعذبان في الآخرة، فوافقا وقبلا، فهما الآن -وفق الرواية- في بئر في بابل تشد شعورهما إلى يوم القيامة.

هذا مجمل الرواية الموجودة في بطون الكتب، وأنا أعرف بعض أهل الفضل من الأحياء -متع الله بهم- يقبل مثل هذه الروايات أو يقول: ليست ببعيد، ونقل عن بعض سلف الأمة ذكرها ولا نقول: قبولها، وأنا أحررها الآن مجملة من عشرات المصادر، فأقول التالي: القصة لم تثبت بسند صحيح أبداً، ومع ذلك نحن من منهجنا أنه لا يشترط السند الصحيح في غير الإخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن القصة كذلك يردها العقل، فإن الرب تبارك وتعالى نزه الملائكة عن مثل هذه الأعمال، والإشارة القرآنية في ذكرهما عليهما السلام يدل على أن شيئاً من ذلك لم يقع، ولو كان وقع منهما فلن وقع ما يعبر عنهما بأنهما ملكان فيقال: وما أنزل على هاروت وماروت، ثم يمكن للناس بعد ذلك أن يخوضوا فيقولوا: إن هاروت وماروت أصلهما ملكان، لكن لما قال الله: {وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} [البقرة:١٠٢] فالمستقر في أذهاننا وفق القرآن أن الملائكة لا تعصي الله ما أمرها، وتفعل ما تؤمر به، والله وصفهما بأنهما ملكان، ومادام الله قد وصفهما بأنهما ملكان فنحن نجري عليهما أحكام الملائكة حتى يأتينا دليل نذهب به هذا اليقين، ولا خبر ولا دليل ولا حجة يدفع بها هذا اليقين.