للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وهذه أربع دلالات واقعة على ما قصدت له مطابقة المعنى الذي وردت لأجله فشديد المناسبة جداً، وذلك لأن الاغتياب، إنما هو ذكر مثالب الناس وتمزيق أعراضهم (وتمزيق العرض) مماثل لأكل (الإنسان) لحم من يغتابه، لأن أكل اللحم فيه تمزيق لا محالة.

وأما قوله (لحم أخيه) فلما في الاغتياب من الكراهة، لأن العقل والشرع معاً قد أجمعا على استكراهه وأمرا بتركه، والبعد عنه. ولما كان كذلك جعل بمنزلة لحم الأخ في كراهته. ومن المعلوم أن لحم الإنسان مستكره عند إنسان آخر مثله، إلا إنه لا يكون مثل كراهته (لحم) أخيه، فهذا القول مبالغة في استكراه الغيبة، لا أمد

فوقها.

وأما قوله (ميتاً) فلأجل أن المغتاب لا يشعر بغيبته، ولا يحس.

وأما جعله ما هو في الغاية من الكراهة موصولاً بالمحبة، فلما جبلت عليه النفوس من الميل إلى الغيبة والشهوة لها. مع العلم بأنها من أذم الخلال، ومكروه الأفعال، عند الله تعالى والناس.

فانظر أيها المتأمل لهذا التمثيل كيف مطابقته لما مثل به تجده من أبلغ التمثيلات وأندرها مثالا، لأنك متى نظرت إلى كل واحدة من تلك الدلالات الأربع، التي أوردناها رأيتها مناسبة لما قصدت له؛ فتمزيق العرض مثل أكل الإنسان لحم من يغتابه؛ لأن ذلك تمزيق على الحقيقة، و (جعل بمنزلة) لحم الأخ لأجل المبالغة في الكراهة. و (الميت) لامتناع الإحساس به. واتصال ما هو مستكره بالمحبة لما في طبع الأنفس من الشهوة للغبية والميل اليها، فاعرف ذلك.

ومن هذا القسم قوله - تعالى - (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط) فمثل البخل بأحسن تمثيل لأن البخيل، لا يمد يده بالعطية، كالمغلول الذي لا يستطيع أن يمد يده. وإنما قال: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك) ولم يقل (ولا تجعل يدك مغلولة) من

<<  <   >  >>