للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومثل الدنيا كمثل حب قد نثر على وجه الأرض، وجعلت كل حبة في فخ، وجعل حول ذلك الحب حب منثور، فجاءت إليه الطيور:

فمنها من قنع بالجوانب، ولم يرم نفسه في وسط الحب، فأخذ حاجته ومضى وسلم.

ومنها من حمله الشره على اقتحام معظم الحب ووسط الحب فوقع في الفخ، وقد انهمك كثير من الناس في الدنيا، وصاروا يقصدونها ويتهافتون فيها تهافت الفراش في النار لما يرى من ضوئها.

قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّمََا مَثَلِي وَمَثَلُ أمَّتِي كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا، فَجَعَلَتِ الدَّوَابُّ وَالْفَرَاشُ يَقَعْنَ فِيهِ، فَأنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ وَأنْتُمْ تَقَحَّمُونَ فِيهِ» متفق عليه (١).

وكل أحد في هذه الدنيا ضيف، وماله عارية، فالضيف مرتحل، والعارية مؤداة.

والدنيا كمثل رجل هيأ داراً وزينها، ووضع فيها من جميع الآلات، ودعا الناس إليها، فكلما دخل ضيف أجلسه على فراش وثير، ووضع بين يديه أواني فاخرة، فيها من كل ما يحتاج إليه من الطعام والشراب، وأخدمه عبيده ومماليكه.

فعرف العاقل أن ذلك كله متاع صاحب الدار وملكه وعبيده، فاستمتع بتلك الآلات والضيافة مدة مقامه في هذه الدار، ولم يعلق قلبه بها، ولم يحدث نفسه بتملكها، بل اعتمد مع صاحب الدار ما يعتمده الضيف.

يجلس حيث أجلسه، ويأكل ما قدم له، ولا يسأل عما وراء ذلك؛ اكتفاء منه بعلم صاحب الدار وكرمه، وما يفعله مع ضيوفه، فدخل كريماً، وتمتع كريماً، وفارقها كريماً، ورب الدار غير ذام له.

وأما الأحمق فحدث نفسه بسكنى الدار، وحوز تلك الآلات إلى ملكه، وتصرف فيها بحسب شهوته وإرادته، فتخير المجلس لنفسه، وجعل يبدل وينقل الآلات، ويغير ما شاء، وكلما قدَّم إليه صاحب الدار شيئاً حدث نفسه


(١) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (٣٤٢٦)، ومسلم برقم (٢٢٨٤) واللفظ له.

<<  <  ج: ص:  >  >>