للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

جماعتان في مسجد، سواء كانت الجماعة الثانية مع الأولى في مكان واحد من المسجد، أو لا؛ لئلا يكون ذلك افتياتًا (١) على الإمام.

واعلم أن من تأمل مصادر الشريعة ومواردها وما اشتملت عليه من المصالح والرغبة في الاجتماع والائتلاف، وعدم التفريق والاختلاف؛ علم أن إقامة جماعة ثانية غير معتادة أولى من تفرقهم وصلاة كل واحد منهم منفردًا.

وقد دلت نصوص الشريعة على هذا، وسأذكر -بعون الله- بعض هذه الأدلة، وشيئًا من كلام أهل العلم في هذه المسألة المهمة:

فعن أُبي بن كعب -رضي الله عنه- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: " ... وإن صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كثر فهو أحب إلى الله عز وجل" (٢).

فدل الحديث بعمومه على أن من صلى مع رجل فهو أزكى من صلاته منفردًا، فيدخل في ذلك إقامة جماعة ثانية لمن فاتتهم الجماعة مع الإمام الراتب.

وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أبصر رجلًا يصلي وحده، فقال: "ألا رجل يتصدق على هذا، فيصلي معه؟ فقام رجل فصلى معه" (٣).

وقد بوب ابن خزيمة على هذا الحديث فقال: "باب الرخصة في الصلاة جماعة في المسجد الذي قد جمّع فيه ضدّ قول من زعم أنهم يصلون فرادى إذا صلى في المسجد جماعة مرة" (٤).

قال البغوي: (ففيه دليل على أنه يجوز لمن صلى في جماعة أن يصليها ثانيًا مع جماعة آخرين، وأنه يجوز إقامة الجماعة في مسجد مرتين، وهو قول غير واحد من الصحابة والتابعين) (٥).

وقول المانعين: إنها صلاة متنفل وراء مفترض فيجوز تكرارها، وأما بمفترض فلا يجوز. فهذا فيه نظر قوي؛ فإنها إذا جازت بمفترض ومتنفل فما الذي ينفي جوازها بمفترضين؟ ومن ادعى الفرق فعليه الدليل (٦).

وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة" (٧).

فهذا الحديث نص صريح في فضل صلاة الجماعة على صلاة المنفرد، ولم يرد تقييد ذلك بألا تكون جماعة ثانية، بل جاء مطلقًا في كل صلاة الجماعة، والرجل مع الرجل جماعة؛ لأن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جعل التضعيف لغير الفذ، فعلم أن ما زاد على الفذ فهو جماعة، فإذا أقام رجلان جماعة ثانية حصل لهما التضعيف -إن شاء الله- لهذا الحديث، والله أعلم.


(١) افتات عليه في الأمر: حكم، وكل من أحدث دونك شيئًا فقد افتات عليك فيه. "اللسان" (٢/ ٦٩).
(٢) أخرجه أبو داود (٢/ ٢٥٩)، والنسائي (٢/ ١٠٤) وإسناده صحيح، قاله الألباني.
(٣) أخرجه أبو داود (٢/ ٢٨٢) وإسناده صحيح.
(٤) صحيح ابن خزيمة (٣/ ٥٧).
(٥) شرح السنة (٣/ ٤٣٨)، وانظر شرح المهذب (٤/ ٢٢٢).
(٦) انظر تحفة الأحوذي (٢/ ١١).
(٧) أخرجه البخاري (٦١٩)، ومسلم (٦٥٠).

<<  <   >  >>