للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بالقرآن" (١).

فهذان الحديثان فيهما نهي القارئ والمصلي عن رفع الصوت بالقراءة، لما في ذلك من أذية الآخرين من قارئ أو مصلّ أو ذاكر. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: (ليس لأحد أن يجهر بالقراءة لا في الصلاة ولا في غير الصلاة إذا كان في المسجد وهو يؤذيهم بجهره) (٢). وقال في جواب له: (ومن فعل ما يشوش به على أهل المسجد أو فعل ما يفضي إلى ذلك منع من ذلك، والله أعلم) (٣). أما إذا كان القارئ لا يتأذى بجهره أحد فقد جاءت الأحاديث بجواز الجهر؛ لا سيما إذا كان القارئ يأمن على نفسه من الرياء وطلب الشهرة، ويتأكد الجهر إذا كان على سبيل التعليم.

ولا ريب أن الجهر أحيانًا فيه إيقاظ القلب وتجديد النشاط وانصراف السمع إلى القراءة وتعدي نفعها إلى السامعين (٤).

ويجوز رفع الصوت بالقرآن في الليل، بل ذلك مستحسن إذا لم يؤذ أحدًا، وأمن من الرياء، وعن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: سمع رجلًا يقرأ في سورة بالليل، فقال: "يرحمه الله، لقد أذكرني آية كذا وكذا، كنت أنسيتها من سورة كذا وكذا" (٥).

[(٤) المرور بين يدي المصلي:]

إن المرور بين يدي المصلي وسترته حرام؛ لأنه تشويش عليه وإشغال لباله وهو يناجي ربه، وقد عبّر بعض العلماء بالكراهة، والمراد التحريم (٦)، فإنه قد ثبت فيه النهي الأكيد، والوعيد الشديد؛ فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خيرًا له من أن يمر بين يديه قال أبو النّضر: لا أدري أقال: أربعين يومًا أو شهرًا أو سنة؟ (٧).

والمراد بما بين يدي المصلي: أن المصلي إن كان له سترة فما بينه وبين سترته محرم، لا يحل لأحد أن يمر منه، وإن لم يكن له سترة؛ فإن كان للمصلي سجادة يصلي عليها فإن هذه السجادة محترمة لا يحل لأحد أن يمر بين يدي المصلي فيها، وإن لم يكن له مصلى فإن المحرم ما بين قدمه وموضع سجوده فلا يمر بينه وبين هذا الموضع (٨).

ويكثر المرور بين يدي المصلي في المسجد الحرام حتى ولو كان المار له مندوحة عن المرور بين يدي أخيه، ومن الناس من يتساهل في المرور بين يدي المصلين الذين يقومون لقضاء ما فاتهم.

ويشرع للمصلي رد المار بين يديه سواء صلى إلى سترة أم لا، على الأظهر من قولي أهل العلم؛ لحديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: "إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من


(١) رواه مالك في الموطأ (١/ ٨٠). ويشهد له حديث أبي سعيد المذكور قبله، وانظر: التمهيد (٢٣/ ٣١٥).
(٢) مجموع الفتاوى (٢٣/ ٦١).
(٣) المصدر السابق (٢٢/ ٢٠٥).
(٤) انظر التببان للنووي (ص ٧١).
(٥) أخرجه البخاري (٩/ ٨٤)، ومسلم (٧٨٨).
(٦) التمهيد (٤/ ١٨٧)، فتح الباري (١/ ٥٨٦)، تحفة الأحوذي (٢/ ٣٠٥).
(٧) أخرجه البخاري (٥٠٩)، ومسلم (٥٠٧).
(٨) انظر: فتح الباري (١/ ٥٨٥).

<<  <   >  >>