للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قال في فتح الباري: (وأجيب عنه: بأنه ليس فيه نفي الغسل، وقد ورد من وجه آخر في الصحيحين بلفظ "من اغتسل" فيحتمل أن يكون ذكر الوضوء لمن تقدم غسله على الذهاب فاحتاج إلى إعادة الوضوء) (١).

ومنها حديث سمرة قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "من توضأ يوم الجمعة فيها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل" (٢).

وهذا الحديث من رواية الحسن عن سمرة، وفي سماعه منه خلاف بين أهل العلم، فلا يقاوم الأحاديث الصحيحة القاضية بالوجوب.

قال ابن حزم بعد أن ساق هذا الحديث وما في معناه: لو صحت لم يكن فيه نص ولا دليل على أن غسل الجمعة ليس بواجب، وإنما فيها أن الوضوء نعم العمل وأن الغسل أفضل، وهذا لا شك فيه، وقد قال الله تعالى: {وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [آل عمران: ١١٠].

فهل دل هذا اللفظ على أن الإيمان والتقوى ليس فرضًا؟! -حاشا لله من هذا- ثم لو كان في جميع هذه الأحاديث نص على أن غسل الجمعة ليس فرضًا لما كان في ذلك حجة؛ لأن ذلك كان يكون موافقًا لما كان عليه الأمر قبل قوله عليه الصلاة والسلام: "غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم" و"على كل مسلم".

وهذا القول منه عليه الصلاة والسلام حكم زائد ناسخ للحالة الأولى بيقين لا شك فيه، ولا يحل ترك الناسخ بيقين والأخذ بالمنسوخ) (٣). وعلى ما تقدم فالظاهر -إن شاء الله- أن غسل الجمعة واجب، فمن تركه فقد قصّر فيما وجب عليه، وصلاته صحيحة إذا كان طاهرًا، فإن الأصل في الأمر أنه للوجوب، ولا يصرف عنه على الندب إلا بدليل، وقد ورد الأمر بالغسل صريحًا، ثم تأيد في معنى الوجوب بورود النص الصريح الصحيح بأن غسل الجمعة واجب.

ومثل هذا الذي هو قطعي الدلالة والذى لا يحتمل التأويل لا يجوز أن يؤول لأدلة أخرى، بل تؤول الأدلة الأخرى إن كان في ظاهرها المعارضة له، والله أعلم (٤).

وقد ورد في بعض النصوص أن الفضل المرتب على التبكير للجمعة لا يحصل إلا لمن اغتسل، وذلك كما في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم


(١) فتح الباري (٢/ ٣٦٢).
(٢) رواه أبو داود (٣٥٤)، والترمذي (٤٩٧) وحسنه، ورواه أحمد (٥/ ٨، ١١، ١٥، ١٦، ٢٢) والنسائي (٣/ ٩٤)، ورواه ابن ماجه من حديث أنس (١٠٩١). قال الحافظ في الفتح (٢/ ٣٦٢): (ولهذا الحديث طرق أشهرها وأقواها: رواية الحسن عن سمرة، أخرجها أصحاب السنن الثلاثة، وابن خزيمة وابن حبان وله علتان: إحداهما: أنه من عنعنة الحسن، والأخرى: أنه اختلف عليه فيه ... ). لكن من قال: عن الحسن سمع من سمرة؛ صحح الحديث، وعلة الاختلاف في وصله وإرساله منتفية، فقد ورد وصله من طرق صحيحة، فقد ورد من طريق أبان بن يزيد عن قتادة عن الحسن عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مرسلًا. وورد من طريق سعيد الجحدري موصولًا، وتابعه ويزيد بن زريع وهمام بن يحيى، وقد صحح الحديث مرفوعًا الدارقطني وأبو حاتم الرازي وابن خزيمة وابن حجر والألباني.
(٣) المحلى (٢/ ١٤).
(٤) انظر فتح الباري (٢/ ٣٦٠) وما بعدها، ونيل الأوطار (١/ ٢٧٢)، والرسالة للشافعي وتعليق أحمد شاكر (ص ٣٠٢) وما بعدها وإحكام الأحكام لابن دقيق العيد بحاشية الصنعاني (٣/ ١١٣).

<<  <   >  >>