للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقد حكى الطحاوي -رحمه الله- في "شرح معاني الآثار" (١) عن قوم من السلف القول بالوجوب، وهو ظاهر من صيغة الأمر في قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول المؤذن" (٢).

وقد ذكر العلماء أن هذا الأمر صُرِفَ عن الوجوب ما ورد عن أنس -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يغير إذا طلع الفجر وكان يستمع الأذان فإن سمع مؤذنًا أمسك وإلا أغار، فسمع رجلًا يقول: الله أكبر الله أكبر. فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "على الفطرة". ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله. أشهد أن لا إله إلا الله، فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "خرجت من النار" فإذا هو راعي معزى (٣).

لكن يحتمل أن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أجاب المؤذن فقال مثل ما قال، إذ ليس في الحديث ما ينفي ذلك، ثم إن هذا فعل، والأمر السابق قول، والفعل منه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يعارض القول الخاص بالأمة (٤). والأظهر أن الصارف عن الوجوب قول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لمالك بن الحويرث ومن معه: "إذا حضرت الصلاة فؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم" (٥)، ووجه الدلالة: أن المقام مقام تعليم، والحاجة داعية إلى بيان كل ما يحتاجه هؤلاء الذين وفدوا على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وقد لبثوا عنده عشرين يومًا، وقد لا يكون عندهم علم ما قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في متابعة الأذان، فلما ترك النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بيان ذلك مع دعاء الحاجة إليه علم أن المتابعة غير واجبة (٦).

وقد ورد في الموطأ عن ثعلبة بن أبي مالك القرظي: أنهم كانوا في زمان عمر بن الخطاب يصلون يوم الجمعة حتى يخرج عمر، فإذا خرج عمر وجلس على المنبر وأذن المؤذن "قال ثعلبة" جلسنا نتحدث، فإذا سكت المؤذنون وقام عمر يخطب أنصتنا فلم يتكلم منا أحد (٧). قال النووى في شرح المهذب على هذا الأثر: وفيه جواز الكلام حال الأذان (٨). اهـ. وعلى ما تقدم فإن صح كون الأمر بإجابة المؤذن للاستحباب لصلاحية ما تقدم لصرف الأمر عن الوجوب.

فالحكم واضح بالنسبة لمسألتنا وهي أنه يقدم تحية المسجد حال الأذان؛ ليفرغ لأمر واجب، وهو استماع الخطبة.

وإن قلنا: إن الأمر للوجوب فالظاهر أن استماع الخطبة آكد، بدليل تحريم الكلام حال الخطبة ووجوب الإنصات، ولا يحرم الكلام حال الأذان، ومما يؤيد ذلك أن الداخل مأمور بأن يتفرغ لسماع الخطبة ما أمكنه ذلك ولو بتخفيف تحية المسجد؛ لقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "فليركع ركعين وليتجوز فيهما". قال في نيل الأوطار: (فيه مشروعية التخفيف لتلك الصلاة؛ ليتفرغ لسماع الخطبة). اهـ (٩).

وقد رأيت في المغني لابن قدامة: (وإن دخل المسجد فسمع المؤذن استحب له انتظاره ليفرغ، ويقول مثل ما يقول جمعًا بين الفضيلتين، وإن لم يقل كقوله وافتتح الصلاة فلا بأس، نص عليه أحمد) (١٠).


(١) شرح معاني الآثار (١/ ١٤٦).
(٢) أخرجه البخاري (٢/ ٩٠)، ومسلم (٤/ ٣٢٧).
(٣) أخرجه مسلم برقم (٣٨٢)، وانظر شرح معاني الآثار (١/ ١٤٦).
(٤) انظر: فتح الباري (٢/ ٩٣)، ونيل الأوطار (٢/ ٥٩).
(٥) أخرجه البخاري (٦٣١) ومسلم (٦٧٤).
(٦) انظر: الشرح الممتع (٢/ ٧٥).
(٧) أخرجه مالك في الموطأ (١/ ١٠٣)، وصححه النووي في شرح المهذب (٤/ ٥٥٠)، وانظر: تمام المنة (ص ٣٣٩).
(٨) شرح المهذب (٤/ ٥٥٠).
(٩) نيل الأوطار (٣/ ٢٩٣).
(١٠) المغني (٢/ ٨٩).

<<  <   >  >>