للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بفعل الخيرات، فإن الاستباق إليها يتضمن فعلها، وتكميلها، وإيقاعها على أكمل الأحوال، والمبادرة إليها، ومن سبق في الدنيا إلى الخيرات فهو السابق في الآخرة إلى الجنات، فالسابقون أعلى الخلق درجة، والخيرات تشمل جميع الفرائض والنوافل من صلاة وصيام وزكاة وحج وعمرة وجهاد ونفع متعدّ وقاصر) (١).

إن التبكير إلى المساجد وانتظار إقامة الصلاة والاشتغال بالذكر والقراءة والنوافل من أسباب المغفرة ومن أعظم الخيرات، ولقد أجمل النبي -رضي الله عنه- الثواب العظيم في التبكير بقوله عليه الصلاة والسلام: "ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه ... " الحديث (٢)، ويأتي بتمامه إن شاء الله.

قال النووي: (التهجير: التبكير إلى الصلاة، أيّ صلاة كانت. قال الهروي وغيره: وخصه الخليل بالجمعة، والصواب المشهور: الأول) (٣).

وقال ابن أبي جمرة: (فيه دليل على أن المسابقة تكون حسًا ومعنى. فهنا تكون معنى لا حسًا، فإن المسابقة على الأقدام حسًا تقتضي الجري والسرعة. والجري هنا والسرعة ممنوعان من حديث آخر. فلم يبق هنا إلا أن تكون معنى وهي الشغل بمراقبة الوقت) (٤).

إن المبادرة إلى المساجد دليل على تعظيم الصلاة وتعلق القلب بالمسجد، وعلى قدر الطاعة عمومًا في نفس المصلي، وعلى أن الصلاة مقدمة عنده على كل شأن من شؤون حياته، وهذا -والله- عنوان الفلاح وعلامة الصلاح. قال الله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (٣٦) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (٣٧) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور: ٣٦ - ٣٨].

إن الإنسان ما دام حيًا فهو مشغول بجسمه وعقله كلّ بحسب حاله. ولكن لا شغل عند حضور الصلاة عن الصلاة لمن وفقه الله تعالى لطاعته ورزقه تعظيم شعائره، فقدم طاعة مولاه ومراده ومحبته على مراده ومحبته، فسارع إلى الخيرات ونافس في نيل القربات، وازداد يقينه بأن من تعظيم الصلاة الإتيان إلى المسجد قبل الإقامة.

ولقد كان السلف الصالح على حرص شديد على صلاتهم، يبادرون إليها مهما كان الأمر؛ لأنهم عرفوا قدرها عند خالقهم، فصار ذلك سجية لهم وخلقًا، وإليك طرفًا من أخبارهم، فنعم القدوة هم بعد نبينا وقدوتنا محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه.

ذكر الإمام ابن المبارك عن عبدي بن حاتم -رضي الله عنه- قال: (ما دخل وقت صلاة قط حتى اشتاق إليها) (٥).

ولم يكن -رضي الله عنه- يشتاق إلى الصلاة فحسب، بل كان يستعد لها ويحضر إلى المسجد قبل الإقامة، فقد ذكر الحافظ الذهبي عنه أنه قال: (ما أقيمت الصلاة منذ أسلمت إلا وأنا على وضوء) (٦).


(١) تفسير ابن سعدي (١/ ١١٢).
(٢) أخرجه البخاري (٥٩٠)، ومسلم (٤٣٧).
(٣) انظر شرح مسلم للنووي (٤/ ٤٠٢)، وفتح الباري (٢/ ٩٧).
(٤) بهجة النفوس لابن أبي جمرة (١/ ٢١٤).
(٥) كتاب الزهد (ص ٤٦٠).
(٦) سير أعلام النبلاء (٣/ ١٦٤).

<<  <   >  >>