للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

حتى أنه لو أدى الأمر إلى القرعة لكانت مشروعة فيه.

والمراد بالصف الأول: هو ما يلي الإمام، سواء جاء صاحبه متقدمًا أو متأخرًا، وإن كان المتقدم حاز فضيلة التبكير فجمع بين الفضيلتين.

وفي الصف الأول مزايا عظيمة ينبغي للمسلم أن يهتم بها ويحرص على الظفر بها. وقد ذكر الحافظ ابن حجر في فتح الباري طرفًا منها. فمن ذلك: المسارعة إلى خلاص الذمة، والسبق لدخول المسجد، والقرب من الإمام، واستماع قراءته، والتعلم منه، والفتح عليه، والسلامة من اختراق المارة بين يديه، وسلامة البال من رؤية من يكون قدامه، وسلامة موضع سجوده من أذيال المصلين (١). ومن الناس من لا يهتم بالصف الأول مع إمكان الصلاة والجلوس فيه، فتراه يدخل المسجد مبكرًا ويقف متنفلًا وسط المسجد، أو في مؤخره، أو يقف في طرف الصف الأول مع خلوه من جهة الإمام، وهذا رغبة عن الخير، وزهد فيه، مبعثه الجهل أو عدم المبالاة باكتساب الفضائل، فالله المستعان.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: (فمن جاء أول الناس وصف في غير الأول فقد خالف الشريعة، وإذا ضم إلى ذلك إساءة الصلاة أو فضول الكلام أو مكروهه أو محرمه ونحو ذلك مما يصان المسجد عنه، فقد ترك تعظيم الشرائع، وخرج عن الحدود المشروعة من طاعة الله، وإن لم يعتقد نقص ما فعله ويلتزم اتباع أمر الله استحق العقوبة البليغة التي تحمله وأمثاله على أداء ما أمر الله به وترك ما نهى الله عنه، والله أعلم) (٢). وينبغي لطلبة العلم أن يتقدموا إلى الصف الأول؛ لأنهم داخلون في قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "ليلني منكم أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم .. " (٣). قال النووى: (وفي هذا الحديث تقديم الأفضل فالأفضل إلى الإمام؛ لأنه أولى بالإكرام، ولأنه ربما احتاج الإمام إلى استخلاف، فيكون هو أولى، ولأنه يتفطن لتنبيه الإمام على السهو لما لا يتفطن له غيره، وليضبطوا صفة الصلاة ويحفظوها، وينقلوها ويعلموها الناس، وليقتدي بأفعالهم من وراءهم .. ) (٤).

وقال في الإنصاف: (السنة أن يتقدم في الصف الأول أولو الفضل والسن، وأن يلي الإمام أكملهم وأفضلهم، قال الإمام أحمد: يلي الإمام الشيوخ وأهل القرآن ويؤخر الصبيان) (٥). وهذا الحكم -وهو الحث على الصف الأول والدنو من الإمام- خاص بالرجال، أما النساء إذا حضرن المساجد فيتعين في حقهن التأخر والبعد عن الإمام وعن صفوف الرجال، كما سيأتي بيانه في الباب الثالث، إن شاء الله تعالى، والله أعلم.

[المكان الفاضل في المسجد النبوي:]

اعلم أن المكان الفاضل في مسجد رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو الذي أمام المحراب النبوي في الزيادة التي في قبلة المسجد، وليس ما يفهمه كثير من الناس من أن المكان الفاضل هو في المسجد القديم، الذي كان في عهده -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دون ما زاده عمر وعثمان -رضي الله عنهما- والذي هو موضع المحراب اليوم.

إن عمر -رضي الله عنه- كان يقف في تلك الزيادة ووراءه الصحابة -رضي الله عنهم- وهم متوافرون


(١) فتح الباري (٢/ ٢٠٨).
(٢) مجموع فتاوى ابن تيمية (٢٢/ ٢٦٢).
(٣) أخرجه مسلم (٤٣٢)، والنسائي (٢/ ٩٠)، وأبو داود (٦٧٤).
(٤) شرح النووي على صحيح مسلم (٤/ ٣٩٩، ٤٠٠).
(٥) الإنصاف (٢/ ٢٨٥).

<<  <   >  >>