للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ومتفقون على أن هذا هو المكان الفاضل، وهل يظن بهم أنهم يتركون المكان الفاضل ويعتقدون أن الصلاة في غير موضعهم أفضل؟!

والناس اليوم يزدحمون للصلاة في موضع المسجد القديم اعتقادًا منهم أنه أفضل، فترى الصفوف تتكامل في ذلك الموضع دون الزيادة، وهذا وإن كان الدافع إليه محبة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لكن فيه مخالفات شرعية منها:

ترك وصل الصفوف وإتمام الأول فالأول، وقد ثبت ما يدل على الأمر بوصل الصفوف وأن من وصل صفًا وصله الله ومن قطع صفًا قطعه الله.

تفويت الصلاة في الصف الأول مع إمكانه لمن يحضر متقدمًا ولكنه يرغب عنه، ومن المعلوم أن الصف الأول هو الذي يلي الإمام، كما أسلفنا، وقد حث النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على المبادرة بحضور المساجد والدنو من الإمام، كما تقدم -أيضًا-.

أن في ذلك مخالفة لهدي الصحابة -رضي الله عنهم- فإن عمر -رضي الله عنه- أمَّ الصحابة في هذه الزيادة، ولا ريب أنهم كانوا يتسابقون للصلاة وراء الإمام ويحرصون على الصف الأول.

فليحرص المسلم على الصف الأول في المسجد النبوي كغيره من المساجد، ولا يغتر بمن يتأخر عنها ويصلي في موضع المسجد القديم.

ولا يقال: إن هذه الزيادة ليست من المسجد، فإن صلاة الصحابة فيها دال على أنها في حكم المسجد قطعًا.

وأما قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة أو كألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا أن يكون المسجد الحرام" (١)؛ فهذا لم يقصد به نفي مضاعفة الأجر في الإضافات الحادثة، ولكن المراد به -والله أعلم- نفي التضعيف في المساجد التي بناها الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في المدينة كمسجد قباء، فأكد أن التضعيف خاص بمسجده بقوله: "هذا" ولم يقصد إخراج ما سيزاد فيه، والله أعلم (٢).

وقد رأيت لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- كلامًا نفيسًا حول هذا الموضوع، فأنقله هنا، يقول رحمه الله: (وقد جاءت الآثار بأن حكم الزيادة في مسجده -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حكم المزيد، تضعّف فيه الصلاة بألف صلاة، كما أن المسجد الحرام حكم الزيادة فيه حكم المزيد، فيجوز الطواف فيه والطواف لا يكون إلا في المسجد لا خارجًا منه، ولهذا اتفق الصحابة على أنهم يصلون في الصف الأول من الزيادة التي زادها عمر ثم عثمان، وعلى ذلك عمل المسلمين كلهم، فلولا أن حكمه حكم مسجده لكانت تلك صلاة في غير مسجده، والصحابة وسائر المسلمين بعدهم لا يحافظون على العدول عن مسجده إلى غير مسجده، ويأمرون بذلك)، ثم قال: (وهنا الذي جاءت به الآثار، وهو الذي يدل عليه كلام الأئمة المتقدمين وعملهم، فإنهم قالوا: إن صلاة الفرض خلف الإمام أفضل، وهنا الذي قالوه هو الذي جاءت به السنة، وكذلك كان الأمر على عهد عمر وعثمان -رضي الله عنهما- فإن كليهما مما زاد من قبلي المسجد، فكان مقامه في الصلوات الخمس في الزيادة، وكذلك مقام الصف الأول الذي هو أفضل ما يقام فيه بالسنة والإجماع، وإذا


(١) أخرجه البخاري (١١٣٣)، ومسلم (١٣٩٤)، وراجع سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة (٢/ ٤٠٣).
(٢) انظر وفاء الوفاء (١/ ٣٥٨).

<<  <   >  >>