للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لئلا يكون متشبهًا بالشيطان الذي يفرّ عند سماع الأذان، والله أعلم) (١).

وعن أبي الشعثاء قال: كنا قعودًا في المسجد مع أبي هريرة -رضي الله عنه- فأذن المؤذن، فقام رجل من المسجد يمشي، فاتبعه أبو هريرة بصره حتى خرج من المسجد، فقال أبو هريرة: (أما هذا فقد عصى أبا القاسم -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) (٢).

وهذا المرفوع حكمًا الذي يحتج به؛ لأن الحكم على الشيء بأنه طاعة أو معصية لا يكون إلا بنص من الشارع، ولا يجزم الصحابي بذلك إلا وعنده علم منه، على أنه قد ورد عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لا يسمع النداء في مسجدي هذا، ثم يخرج منه إلا لحاجة، ثم لا يرجع إليه إلا منافق" (٣).

قال الترمذي -رحمه الله- بعد حديث أبي هريرة المتقدم: (وعلى هذا العمل عند أهل العلم من أصحاب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومن بعدهم، ألا يخرج أحد من المسجد بعد الأذان إلا من عذر؛ أن يكون على غير وضوء أو أمر لا بد منه) اهـ (٤).

أما من خرج لعذر شرعي كوضوء فقد ورد الدليل بجوازه، وهو ما دل عليه حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خرج وقد أقيمت الصلاة وعدلت الصفوف، حتى إذا قام في مصلاه انتظرنا أن يكبر انصرف، قال: "على مكانكم" فمكثنا على هيئتنا حتى خرج إلينا ينطف رأسه ماء، وقد اغتسل (٥).

وكذا يجوز الخروج لمن كان إمامًا في مسجد آخر حضر درسًا أو محاضرة؛ لأن هذا عذر شرعي داخل في عموم الحاجة المنصوص على استثنائها.

وعن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "من أدركه الأذان في المسجد ثم خرج، لحاجة، وهو لا يريد الرجعة فهو منافق" (٦).

وعن سعيد بن المسيب: أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- " قال: "لا يخرج من المسجد أحد بعد النداء إلا منافق، إلا أحد أخرجته حاجة وهو يريد الرجوع" (٧).

والمعنى: أن فعله هذا فعل المنافق؛ إذ المؤمن حقًا ليس من شأنه ذلك، فالنفاق هنا النفاق العملي، وليس الاعتقادي، والله أعلم (٨).

وبعض المؤذنين إذا أذن خرج إلى بيته أو لشغله، وهذا وإن كان يريد الرجوع لكن الأولى في حقه عدم الخروج؛ لأنني أخشى أن يكون خروجًا لغير حاجة، بل دعت إليه العادة والملل من الجلوس في المسجد حتى الإقامة لا سيما في الأوقات التي يتسع فيها الزمن بين الأذان والإقامة في غالب المساجد، والمؤذن أولى بالامتثال من غيره؛ لأنه يدعو الناس إلى حضور الصلاة والمبادرة إليها، ثم هو يخرج ولا يعود إلا قبيل الإقامة. فينبغي التنبه لذلك، والتنبيه عليه.


(١) شرح ابن بطال على البخاري (٢/ ٢٣٥)، فتح الباري (٢/ ٨٧).
(٢) أخرجه مسلم (٣/ ١٦٢)، وغيره. وانظر أعلام الموقعين (٣/ ١٦٠)، وفيه (قال عمار .. )، بدل (قال أبو هريرة).
(٣) أخرجه الطبراني في الأوسط (٤/ ٥٠١، ٥٠٢)، ورواته محتج بهم في الصحيح، قاله في مجمع الزوائد (٢/ ٥)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (١/ ١٧٩).
(٤) جامع الترمذي (١/ ٦٠٨ مع التحفة).
(٥) أخرجه البخاري (٦١٣)، ومسلم (٦٠٥).
(٦) أخرجه ابن ماجه (١/ ١٢٣ صحيح ابن ماجه)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (١/ ١٧٩).
(٧) رواه أبو داود في المراسيل (ص ٨٢)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (١/ ١٧٩).
(٨) قاله الألباني في المصدر المذكور.

<<  <   >  >>