للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

فالحقيقة شيء والصورة الأدبيَّة شيء آخر. ومنذ نشر (دانيال دي فوى) قصة (روبنسون كروزو) فإن الأجيال التي قرأتها نسيت المغامرة المحزنة لذلك البحار الإنكليزي المسكين الذي وُجد بعد أربع سنوات من غرق سفينته في جزيرة جرداء في وسط المحيط، وأُعيد إلى إنكلترا وهو يرتدي ملابس مصنوعة من جلد الماعز الوحشي. إنّ هذه المغامرة هي التي ألهمت (دانيال دي فوي) (١)، بيد أنها بقيت طي النسيان.

فالفرد الذي يُتْرك لإرادته وحدها وقدرته وحدها في ظرفٍ مماثلٍ لما حدث للبحار الإنكليزي الذي وَجد نفسه منفصماً عن بيئته، تصبح هذه حقيقته، وهي أيضاً حقيقة الفرد الذي لم يعد يجد في البيئة التي ينتمي إليها لا الإرادة في تقديم العون ولا القدرة على فعل ذلك.

إنه حينئذ يشبه الفرد الذي يبقى حيّاً بعدما يندثر جنسه في كارثة أرضية، ومأساته شبيهة بمأساة آخر ماموث (٢) من العصر الجليدي يتيه في الفيافي المتجمدة القاسية حيث لا يجد القوت.

إن إرادة المجتمع وقدرته تُضفيان صفة الموضوعية على وظيفة الحضارة- وهي جملة العوامل المعنوية والمادية اللازمة لتنمية الفرد- وهي نفسها تتموضع في شكل سياسة، في صورة تشريع يمثلان إسقاطاً مباشراً لعالم الأفكار على الصعيد الاجتماعيّ والأخلاقيّ.


(١) ألهمت هذه المغامرة (دانيال دي فوي) بعد حدوثها بما يقرب من قرن.
(٢) الماموث ( Mammouth) حيوان (قديم) يشبه الفيل، عاش في العصر الرابع من تاريخ الأرض. وُجدت منه عدة جثثٍ متحجرة في الجليد في بعض مناطق سيبيريا (في روسيا). ويُعتقد أنه انقرض لعدم توفر القوت لأسباب جيولوجية.

<<  <   >  >>