للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فالإجماع حاصل على تسليم صحته.

فإن قيل: إنما اتفقوا على وجوب العمل به لا على صحته، منعناه، وسند المنع: أنهم متفقون على وجوب العمل بكل ما صح، ولو لم يخرجه الشيخان؛ فلم يبق للصحيحين في هذا مزية، والإجماع حاصل على أن لهما مزية فيما يرجع إلى نفس الصحة.

وممن صرح بإفادة ما خرجه الشيخان العلم النظري:

- الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني.

- ومن أئمة الحديث: أبو عبد الله الحميدي.

- وأبو الفضل بن طاهر، وغيرهما. ويحتمل أن يقال: المزية المذكورة كون أحاديثهما أصح الصحيح.

ب - ومنها: المشهور إذا كانت له طرق متباينة سالمة من ضعف الرواة والعلل، وممن صرح بإفادته العلم النظري الأستاذ أبو منصور البغدادي، والأستاذ أبو بكر بن فورك، وغيرهما.

جـ - ومنها: المسلسل بالأئمة الحفاظ المتقنين، حيث لا يكون غريبا، كالحديث الذي

يرويه أحمد بن حنبل، مثلا، ويشاركه فيه غيره عن الشافعي ويشاركه فيه غيره عن مالك بن أنس، فإنه يفيد العلم عند سامعه بالاستدلال من جهة جلالة رواته وأن فيهم من الصفات اللائقة الموجبة للقبول ما يقوم مقام العدد الكثير من غيرهم، ولا يتشكك من له أدنى ممارسة بالعلم وأخبار الناس أن مالكا، مثلا، لو شافهه بخبر أنه صادق فيه، فإذا انضاف إليه من هو في تلك الدرجة ازداد قوة، وبعد ما يخشى عليه من السهو.

وهذه الأنواع التي ذكرناها لا يحصل العلم بصدق الخبر منها إلا للعالم بالحديث المتبحر فيه العارف بأحوال الرواة، المطلع على العلل. وكون غيره لا يحصل له العلم بصدق ذلك لقصوره عن الأوصاف المذكورة لا ينفي حصول العلم للمتبحر المذكور.

ومحصل الأنواع الثلاثة التي ذكرناها أن:

الأول: يختص بالصحيحين.

والثاني: بما له طرق متعددة.

والثالث: بما رواه الأئمة.

ويمكن اجتماع الثلاثة في حديث واحد، ولا يبعد حينئذ القطع بصدقه، والله أعلم).

[أنواع الغريب:]

قال الحافظ: (ثم الغرابة: إما أن تكون في أصل السند، أو لا. فالأول: الفرد المطلق. والثاني: الفرد النسبي، ويقل إطلاق الفرد عليه). وفيه مسائل منها:

[الأولى - الفرد المطلق والنسبي.]

قال في "النزهة" (ص/٦٤): (ثم الغرابة إما أن تكون: في أصل السند: أي في الموضع الذي يدور الإسناد عليه ويرجع، ولو تعددت الطرق إليه، وهو طرفه الذي فيه الصحابي (١). أو لا يكون كذلك، بأن يكون التفرد في أثنائه، كأن يرويه عن الصحابي أكثر من واحد، ثم ينفرد بروايته عن واحد منهم شخص واحد.

فالأول: الفرد المطلق: كحديث النهي عن بيع الولاء وعن هبته، تفرد به عبد الله بن دينار عن ابن عمر، وقد ينفرد به راو عن ذلك المنفرد، كحديث شعب الإيمان، تفرد به أبو صالح عن أبي هريرة، وتفرد به عبد الله بن دينار عن أبي صالح، وقد يستمر التفرد في جميع رواته أو أكثرهم. وفي مسند البزار، والمعجم الأوسط، للطبراني أمثلة كثيرة لذلك.

والثاني: الفرد النسبي: سمي بذلك لكون التفرد فيه حصل بالنسبة إلى شخص معين، وإن كان الحديث في نفسه مشهورا (٢)).

وقال في "النكت" (٢/ ٧٠٥): (وأما النسبي فيتنوع - أيضا - أنواعا:

أحدهما: تفرد شخص عن شخص.

ثانيها: تفرد أهل بلد عن شخص.

ثالثها: تفرد شخص عن أهل بلد.

رابعها: تفرد أهل البلد عن أهل بلد أخرى.

مثال الأول: حديث عبد الواحد بن أيمن عن أبيه عن جابر - رضي الله عنه - في قصة الكُدْيَة التي عرضت لهم يوم الخندق أخرجه البخاري، وقد تفرد به عبد الواحد عن أبيه. وقد روي من غير حديث جابر - رضي الله عنه -.

ومثال الثاني: حديث "القضاة ثلاثة". تفرد به أهل مرو، عن عبد الله بن بريدة عن أبيه - رضي الله عنه -.

ومثال الثالث: وهو عكس الذي قبله، فهو قليل جدا وصورته أن ينفرد شخص عن جماعة بحديث تفردوا به.

ومثال الرابع: ما رواه أبو دواد من حديث جابر - رضي الله عنه - في قصة المشجوج: "إنما كان يكفيه أن يتيمم ويصعب على جرحه خرقة".قال ابن أبي داود: فيما حكاه الدارقطني في "السنن": "هذه سنة تفرد بها أهل مكة، وحملها عنهم أهل الجزيرة").

[الثانية - الفرد والغريب.]

قال الحافظ عن الفرد النسبي: (ويقل إطلاق الفرد عليه).

وقال في "النزهة" (ص/٦٦): (ويقل إطلاق الفردية عليه (٣)؛ لأن الغريب والفرد


(١) قال القاري في "شرح النخبة" (١/ ٢٣٣): (وكون الغرابة في هذا الطرف هو أن يروي تابعي واحد عن صحابي، ولا يتابعه غيره في روايته عن ذلك الصحابي، سواء تعدد الصحابي في تلك الرواية أو لا. وأما انفراد الصحابي عن النبي صلى الله عليه وسلم، فليس غرابة إذ ليس في الصحابة ما يوجب قدحا، فانفراد الصحابي يوجب تعادل تعدد غيره، بل يكون أرجح. قال تلميذه: قوله: وهو طرفه الذي فيه الصحابي. قال المصنف: أي الذي يروي عن الصحابي، وهو التابعي، وإنما لم يتكلم في الصحابي، لأن المقصود ما يترتب عليه من القبول والرد. والصحابة كلهم عدول ... فقوله: طرفه أراد به التابعي، وأما الصحابي وإن كان من رجال الإسناد، إلا أن المحدثين لم يعدوه منهم لأن كلهم عدول على الإطلاق من خالط الفتن وغيرهم ... فقوله: فيه الصحابي، أي في ذلك الطرف، مسامحة أي، ينتهي ذلك الطرف إلى الصحابي، ويتصل به).
(٢) قال القاري (١/ ٢٣٨): (أنه إنما سمي نسبيا لأن التفرد إنما حصل فيه بالنسبة إلى شخص معين من طريق واحد، وإن كان مشهورا في نفسه لكونه مرويا من طرق أخرى، ففرديته بالنسبة إلى الطريق الأولى، ومشهوريته باعتبار الطريق الأخرى).
(٣) استشكل البعض ظاهر هذه العبارة وخاصة أنه عللها بوقوع الترادف بين الغريب والفرد لغة واصطلاحا؛ فالترادف يسوغ كثرة إطلاق الفردية على الغريب لا قلتها.
قال المناوي في " اليواقيت والدرر" (١/ ٣٢٧): (قال البقاعي: ليت شعري هذا التعليل لماذا؟ إن كان لعلة إطلاق الفردية لم يصح، لأن الترادف إن لم يقتض التسوية في الإطلاق لم يقتض ترجيح أحد المترادفين فيه، وإن كان تعليلا لإطلاق الفرد المطلق والفرد النسبي على الغريب لم يصح أيضا، لأن الترادف إنما هو بين مطلق الغريب ومطلق الفرد (لا بين الفرد) المقيد بالإطلاق أو بالنسبة بينه وبين الغريب). وأجاب عن ذلك اللقاني في "شرح النخبة" (١/ ٦٥٢) بأن مراده بقلة الإطلاق أي قلة الاستعمال لا أصل الإطلاق الذي يستلزمه الترادف فقال: (قوله:"ويقل إطلاق الفردية عليه" أي: ويقل استعمال ذي الفردية فيه، فالإطلاق بمعنى الاستعمال و"على" بمعنى "في" مثل: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا} [القصص: ١٥]، وبهذا يسقط الاعتراض بخفاء العبارة في إفادة المراد).

<<  <   >  >>