للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[كتابة مقادير الخلائق قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة]

المرتبة الثانية من مراتب القدر: هي مرتبة كتابة علم الله عز وجل، فالله عز وجل كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، ولا نقول: قبل أن يخلق بني آدم أو الطير أو البهائم أو الحيوانات أو الوحوش أو السباع، بل قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، فهذا شيء عظيم وهائل جداً يجعل المرء يهدأ ويطمئن قلبه تماماً إذا علم أن كل شيء بقدر، وأن الله تعالى هو الذي بيده الضر والنفع وأنه كتب مقادير الخلائق في اللوح المحفوظ الذي لا يقبل محواً.

والكتاب كتابان كما قال ابن عباس: كتاب يقبل المحو والإثبات، وهذه الكتب هي التي في يد الملائكة الحفظة الكتبة، يمحو الله تعالى فيها ما يشاء ويثبت بأمره ونهيه، أما اللوح المحفوظ فإن الله تعالى كتبه كتابة لا تقبل المحو؛ ولذلك قال الله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:٣٩]، أي: اللوح المحفوظ الذي لا يقبل محواً ولا إثباتاً بعد أن كتبه الله عز وجل.

ولذلك قال شيخ الإسلام: إن المكتوب في اللوح المحفوظ لا يتغير أبداً، والتغيير إنما يكون في الكتب التي بأيدي الملائكة، فأول ما خلق الله تعالى قلم القدرة فقال الله عز وجل له: اكتب، قال: وما أكتب؟ -جعل الله عز وجل للقلم إدراكاً وعقلاً يفهم الخطاب، ففهم القلم الخطاب الموجه إليه، ولكنه خفي عليه نوع الكتابة، فسأل عن النوعية ولم يسأل عن أصل الكتابة- قال القلم: وما أكتب؟ قال الله عز وجل: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة.

ولا تتعجب من هذا الحوار بين القلم المخلوق وبين خالقه سبحانه وتعالى، فإن الجمادات بالنسبة إلى الله تعالى يركب فيها العقل ويخاطبها، كما قال تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:١١]، وقال الله تعالى للنار: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:٦٩] فكانت كذلك، وقال الله تعالى: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} [سبأ:١٠] فأوبت معه.

والحاصل: أن الله تعالى أمر القلم أن يكتب فانفتل القلم وكتب كل شيء إلى يوم القيامة، فما من حركة ولا سكنة لخلق الله عز وجل قاطبة إلا وكتبها القلم في اللوح المحفوظ، فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، فإذا آمنت بهذا اطمأننت.

قال النبي عليه الصلاة والسلام: (جفت الأقلام وطويت الصحف) أي: جفت الأقلام بما أمر الله عز وجل من كتابة مقادير الخلائق في اللوح المحفوظ، وطويت الصحف فلا محو فيها ولا إثبات -أي: اللوح المحفوظ- خلافاً لما بأيدي الملائكة من الكتب التي تقبل المحو والإثبات.

وقال الله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ} [الحج:٧٠] أي: في اللوح المحفوظ: {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج:٧٠]، أي: كتابة ذلك على الله أمر يسير؛ لأن الله تعالى لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.

وقال الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ} [الحديد:٢٢] أي: ما وقعت مصيبة في الأرض: {وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:٢٢] أي: من قبل أن نخلقها: {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:٢٢].

وقال النبي عليه الصلاة والسلام كما في مسلم من حديث عبد الله بن عمرو: (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء) وهذا التقدير التابع لعلمه سبحانه وتعالى يقع في مواضع جملة وتفصيلاً كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله.

والكتابة مراتب، فمنها كتابة ما قبل القبضتين، فالله عز وجل قبل أن يخلق آدم قبض قبضتين فقال: هؤلاء في النار ولا أبالي، وهؤلاء في الجنة ولا أبالي، فهؤلاء مكتوبون أنهم من أهل الشقاء، وأن هؤلاء من أهل السعادة.

وهناك كتابة كما في حديث ابن مسعود في الصحيحين عند نفخ الروح، ولا يزال الجنين في بطن أمه.

وهناك كذلك كتابة حولية، أي: على رأس كل عام كما قال الله عز وجل: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} [الدخان:٤ - ٥].

وهناك تقدير يومي، كما قال الله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:٢٩].

فهذه أنواع الكتابة، كتابة القبضتين، وكتابة في علم الأجنة، وكتابة عند نفخ الروح، وكتابة سنوية، وكتابة يومية، وقيل غير ذلك من الكتابات.

فهذا التقدير الذي هو العلم والكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>