للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[توسط أهل السنة والجماعة في إثبات كرامات الأولياء بدليل الكتاب والسنة والإجماع]

أهل السنة والجماعة توسطوا بين المعتزلة المنكرين لكرامة الأولياء من جهة، وبين الصوفية المغالين في إثبات الكرامة لغير الأولياء من جهة أخرى، وإنما هي أحوال شيطانية تجري على يد من اتخذوهم أولياء من دون الله عز وجل ودون عباده الصالحين المؤمنين.

توسط أهل السنة والجماعة بين هؤلاء وهؤلاء، فقالوا بإثبات كرامة الأولياء، ولكنهم وضعوا مسائل وقيوداً وشروطاً لمعرفة ما إذا كانت هذه معجزة أو هذه كرامة، أو هذه خارقة من خوارق العادة تجري على يد السحرة والكهان، فصارت المسألة اعتقادية في غاية الحكمة، محكومة من كل زواياها وفروعها، فلا يمكن الالتباس الذي يزعمه المعتزلة، كما لا يمكن الغلو الذي يزعمه الصوفية.

قال أهل السنة والجماعة: كرامات الأولياء ثابتة بالقرآن والسنة والواقع والعقل، فهذه مصادر إثبات الكرامة للأولياء؛ أنها ثابتة بالقرآن وسنتعرف عليه، والسنة وسنتعرف عليها، والواقع أننا نرى ذلك واقعاً مشاهداً كل منا يلمسه، فإن الله تبارك وتعالى يجري الكرامة على أيدي كثير من عباده في كل طوائف المجتمع، من صناع وتجار وزراع وحكماء وحكام وغير ذلك من عامة الشعب؛ لأنه قد انطبع في أذهان العامة أن الولي لابد أن يكون عالماً أو فقيهاً، وهذا كلام غير سديد، وإنما أولياء الله عز وجل هم المؤمنون المتقون، كما قال الله عز وجل: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:٦٢]، لا خوف عليهم في الدنيا، ولا يصيبهم حزن ولا غم ولا كرب يوم القيامة، ثم عرفهم الله عز وجل في نفس الآية.

قال: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:٦٣]، فكل إنسان فيه ولاء لله عز وجل بقدر ما فيه من إيمان وتقوى، ودون ذلك خرط القتاد وكلام فارغ وتهريج، سواء من جهة المعتزلة أو المتصوفة.

وقوله سبحانه وتعالى: ((الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ)) يدل على أن الله تعالى اتخذ أولياء من اليهود والنصارى وأصحاب الكتب السابقة مادام النبي محمد صلى الله عليه وسلم لم يبعث، فإذا بعث نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، فقد انقطعت الولاية عن كل الأمم السابقة، إلا أن يكونوا أتباعاً لنبينا محمد عليه الصلاة والسلام، وهذه الآيات يدندن حولها اليهود والنصارى إلى يومنا هذا ويقولون: نحن أولياء الله وأحباؤه، قل: فلم يعذبكم؟ لأن الولي لا يعذبه الله عز وجل، وإنما يغفر له ويرحمه ويجري الكرامة على يديه تأييداً وتثبيتاً ونصرة للحق وإعانة له على قضاء مصالحه، فإذا كان هذا هو غرض الكرامة، وإذا كان هذا هو ثمرة الولاية، فكيف تزعمون يا معشر يهود! ويا معشر مشركي العرب! أنكم أولياء لله عز وجل، مع نزول العذاب عليكم بالليل والنهار؟ أنتم كذبة، وإنما أولياؤه الذين آمنوا وكانوا يتقون، وهذا يدل على انقطاع الولاية في الأمم السابقة، وثبوت هذه الولاية في هذه الأمة المباركة أمة محمد عليه الصلاة والسلام.

هذه مسألة ينبغي أن تقرر، كما قررت المسألة التي قبلها، أما السنة فإن أعظم حديث في ثبوت كرامة الأولياء هو الحديث القدسي الذي أخرجه البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل: من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة)، فأثبت الله تعالى في هذا الجزء من الحديث أن الناس أولياء وأعداء، وغيرما آية في كتاب الله تكلمت عن هذين الصنفين؛ عن أعداء الله وعن أوليائه، عن الذين كفروا وعن الذين آمنوا، عن الصالحين وعن غير الصالحين، آيات في الموازنة بين الحق والباطل، بين الخير والشر، بين أهل الصلاح وأهل الفساد، بين أهل الطاعة وأهل المعصية، آيات كثيرة جداً ذكرت الفريقين على سبيل المقابلة؛ لإظهار شأن كل فريق، وبيان خصائص كل فريق منهما.

قال الله عز وجل: (من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة)، وإذا قلنا: إن أولياء الله هم الذين آمنوا وكانوا يتقون، فالمعلوم أن على قمة هرم الأولياء هم أهل العلم العاملون بعلمهم، المخلصون في دعوة الخلق إلى الحق، هم على قمة هرم الولاية، فكيف يُعَادَون من غيرهم، فلابد أن الذي يعاديهم ويمنعهم من مهمتهم عدو لله عز وجل ولأوليائه الصالحين.

قال: (من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة)، ولم يقل: فقد بارز أوليائي بالمحاربة، وإنما الحرب بينه وبين الله عز وجل؛ لأنه بارز الله في عباده الصالحين وفي أوليائه المؤمنين المتقين، رفع نار الحرب وشعار الحرب بينه وبين الله عز وجل.

وما حارب الله تعالى أحد فأفلح وأنجح، بل ما حارب الله تعالى أحد إلا وأهلكه الله تعالى في أي واد ولا يبالي سبحانه وتعالى؛ لأنه لا يخشى عاقبة الأمور، كما قال: {وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا} [الشمس:١٥]، {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:٢٣].

فليعلم هؤلاء الذين يحاربون أولياء الله عز وجل أن حربهم إن لم تكن قائمة فهي قادمة مع الله عز وجل لا محالة.

قال: (

<<  <  ج: ص:  >  >>