للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[بيان تأويل قصة موسى في لطمته لملك الموت عليهما السلام]

فموسى عليه السلام فوجئ في داره برجل لا بملك، والملك كان يأتي عياناً لقبض الأرواح، وهذا فرق بين رحمة الله لهذه الأمة وبين ما جعله على الأمم السابقة، أن ملك الموت كان يأتي على صورته التي خلقه الله عليها لمن أراد أن يقبض روحه، وكم من إنسان قبض روحه في مجلس موسى، فرأى موسى ملك الموت على صورته التي خلقه الله عليها كما رآه من جاء إليه ملك الموت ليقبض روحه، أما غيره فإنهم لا يرون ملك الموت، بل لا يراه إلا من جاءه الموت.

أما الأنبياء والمرسلون فإن الحجب قد كشفت لهم فرأوا الملائكة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة سعد بن معاذ رضي الله عنه الذي اهتز له عرش الرحمن: (والله! لم يكن هناك شبر أو موضع أربع أصابع في السماء إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد).

وهذا يبين أن النبي عليه الصلاة والسلام قد كشفت له الحجب حتى رأى الملائكة وهم على هذا النحو، فكذلك موسى عليه السلام، ولكن لما أتى ملك الموت ولأول مرة في صورة رجل غريب لا يعرفه موسى عليه السلام، ثم فوجئ موسى بأنه في داخل داره ويقول له: أجب ربك.

لأن موسى لما رآه في داره قام إليه فلطمه، وهذا من باب دفع المعتدي، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد، ومن قتل دون عرضه فهو شهيد)، فهذا موسى عليه السلام قد اتفقت شريعته مع شريعة محمد عليه الصلاة والسلام في دفع الصائل ومقاتلة من دخل الدار بغير إذن، وأنا أصر على أنه قام إلى الرجل ولم يقم إلى ملك الموت، ولكن ملك الموت قال له لما لطم: أجب ربك.

قال العلماء: وما المانع أن يكون موسى قد ظن أن ملك الموت لما لطم وفقئت عينه قال لموسى أجب ربك تعوذاً وهروباً أن تفقأ عينه الأخرى؟! وأنتم تعلمون أن التعوذ في مثل هذه المواطن أمر قد وقع فيه كثير من الناس، فصعد ملك الموت إلى الله بعينه التي فقئت، فقال: يا رب! إنك أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت وفقأ عيني، فرد الله عز وجل على ملك الموت عينه؛ لأنه أراد أن يبقى في صورته قبل التحول على خلقته التي تخلق فيها لا على أصل صورته التي عليها أولاً، فلما ردت عينه أتى هذا الرجل إلى موسى عليه السلام في صورة الرجل الذي أتاه أول مرة، وقال: يا موسى! الله تعالى يقول لك: آلحياة تريد؟ وهنا لا بد من وقفة عظيمة، وهي أنه ما من نبي مرض مرض الموت إلا خير بين الدنيا والآخرة، والنبي عليه الصلاة والسلام كما جاء ذلك في الصحيحين من حديث عائشة قالت: (غشي على النبي عليه الصلاة والسلام وهو في حجري.

ثم أفاق، فأشخص بصره إلى السماء، ثم قال: اللهم الرفيق الأعلى، فعلمت أنه خُيِّر).

وفي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من نبي أتاه أجله إلا خير بين الموت والحياة).

فما من نبي قبضه ربه إلا بعد أن خيره، ولما أتى ملك الموت إلى موسى عليه السلام في أول مرة لم يخيره، وإنما دخل عليه ففوجئ موسى برجل غريب فقام إليه فلطمه ففقأ عينه، فصعد الملك ثم نزل، فقال: يا موسى! الله تعالى يقول لك: آلحياة تريد؟ وهذا هو التخيير، فلما علم موسى أنه ملك الموت وأنه تصور بصورة رجل، وأن موسى يعلم علماً يقيناً أنه لن يقبض حتى يخير، فلما لم يخير في الأولى وخير في الثانية علم أن هذا الرجل الذي أتاه أولاً هو الذي أتاه ثانياً، ولكنه في هذه المرة أتاه بالعلامة التي ينتظرها موسى، فقال: الله تعالى يقول لك: آلحياة تريد؟ فوقف موسى ولم يلطمه؛ لأنه عرف وهو مؤمن به، والأصل أن من آمن بأحد استجاب وامتثل أمره، فقال ملك الموت: الله تعالى يقول إذا كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ظهر ثور، فلك بكل شعرة غطتها يدك سنة، ولكن موسى سأل: ثم ماذا؟ أي: بعد هذه الآلاف السنين بعدد شعر رأس الثور.

قال: الموت.

لأن كل شيء هالك إلا وجهه، ومعنى التخيير: إذا كنت تريد البقاء فلك ذلك، وإذا كنت تريد الموت فلك ذلك، واعلم أنك لو اخترت البقاء فستختاره بإذنك وأمرك وبينك وبين ربك علامة، وهي أنك ستعيش بكل شعرة غطتها يدك من جلد الثور عاماً كاملاً، قال موسى: ثم ماذا؟ قال: الموت.

قال: فالآن.

فموسى عليه السلام لم يكن محباً للحياة ولم يكن كارهاً للقاء الله، وإنما ظن أن الذي دخل عليه رجل غريب يريد أن ينتهك حرمة بيته، فدافع عن نفسه، والمعلوم في كل الشرائع أن الدفاع عن النفس مباح وجائز على قدر ما يدفع به الصائل، فإن دخل عليك رجل يريد أن يأخذ مالك، وينتهك عرضك، ولا يمكن دفعه إلا بالقتل؛ فالقتل جائز، وإذا كان دفعه بالضرب يؤدي المهمة فقتله غير مباح، وإذا كان تخويفه حتى يهرب من البيت فلا يجوز ضربه، وهذه أحكام الصائل، فلما لم يندفع هذا الرجل وثبت في موقفه وقال: أجب ربك، ومعنى (أجب ربك) أي: سلمني روحك أقبضها، وهذا كلام يخرج من الآدميين، أنا إذا أردت أن أهدد واحداً بالقتل قلت له: سلم لي نفسك أنا سأقتلك، أو سأزهق روحك، وهذا الذي حدث من م

<<  <  ج: ص:  >  >>