للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[التكوين طريق إلى التمكين]

الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على رسوله المصطفى، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: فإن حال المسلمين في كل مكان في قمة الحزن والأسف، والنهوض بهذه الأمة ليس من الأمر المستحيل كما أنه ليس بالأمر السهل، وطريق ذلك أن ترجع الأمة إلى ما كان عليه سلفها، إلى ما كانت عليه القرون الخيرية، في هذه القرون في عقيدتهم وعبادتهم وأخلاقهم وسلوكهم، لابد أن ترجع الأمة إلى ربها ودينها وشرعها، وإلا فهم والعدو سواء عند الله عز وجل نصراً وهزيمة، ولا تنتصر هذه الأمة إلا بتقوى الله عز وجل، ودون ذلك إن انتصر المسلمون مرة نصر الله عليهم العدو ألف مرة، فلابد من الرجوع إلى الله تعالى ولكتابه وسنة رسوله، ولابد لشرع الله أن يسود ولسنة النبي عليه الصلاة والسلام أن تحكم هذه الجموع الغفيرة من أمة محمد عليه الصلاة والسلام.

قال العلماء: لابد لهذه الأمة أن تبدأ من الآن مرحلة التكوين حتى يأتي بعد ذلك مرحلة التمكين، وقد صنفوا في ذلك كتباً كثيرة، منها: (دولة الإسلام بين التكوين والتمكين)، وأجمعوا جميعاً على لزوم مرحلة التكوين أولاً، وهذا مأخوذ من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه، فقد كون العقيدة في قلوب أصحابه، ثم بعد ذلك انطلق ليبني الدولة في المدينة، ثم انطلق شرقاً وغرباً حتى اتسعت الفتوحات في زمن الخلفاء الراشدين لتشمل المعمورة كلها، فلما طغى الكفر والفسوق والعصيان على أهل الأرض جميعاً -إلا من رحم الله عز وجل- انتفش الباطل وعلا بساقه فوق هامات الموحدين، حتى صارت أحذية ونعال الكافرين فوق هامات المؤمنين؛ لأنهم أخذوا بأسباب النصر وتخلفنا نحن عن أسباب النصر، وأسباب النصر -كما سمعت في الآية- بوعد الله تعالى الذي لا يتخلف: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [المائدة:٩]، فلابد من الإيمان وعمل الصالحات.

وغير ما آية قرن الله تعالى فيها العمل الصالح بالإيمان، ويحفظها الكبار والصغار، بل لو قلت لطفل: (إن الذين آمنوا) لأكمل لك: (وعملوا الصالحات) فالإيمان قول وعمل، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، ومن الأعمال ما هو شرط صحة في الإيمان، ومنها ما هو شرط كمال، وضابط ذلك: نص، أو إجماع علماء السنة وأهل الإسلام، ومن قال بغير ذلك فهو من المبتدعة، أي: قال بغير ما قال به النبي، وبغير ما نطق به القرآن، فلابد أن تستكمل الأمة أركان الإيمان وشروط الإيمان ومستحبات الإيمان حتى يكتب لها النصر، وأن تعمل بمقتضى هذا الإيمان، وأن تجد وتسعى في النهوض بشأنها، وأن تعرف دورها الريادي في العالم كله، وأن الله تعالى قد كتب لها الخيرية فقال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:١١٠]، فذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قبل الإيمان؛ لأنه السياج الذي يحيط بالإيمان ويحفظه من كل جوانبه، وأعظم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الجهاد في سبيل الله عز وجل، إذ لا حياة لهذه الأمة إلا بإحياء هذه الفريضة، ولا عز لها إلا برفع راية الجهاد، وما دون ذلك خرط القتاد، فلابد لهذه الحكومات التي تولت أمر المسلمين أن ترفع هذه الراية، ثم إن الموت واحد والأسباب متعددة، فلم نضن على أنفسنا بموتة شريفة هنية في سبيل الله عز وجل؟! {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:١١١] فأعظم الإيمان وأعظم الجهاد: الجهاد بالنفس، والجهاد بالمال، وهما معاً أفضل الجهاد وأشرفه على الإطلاق، إلا أن يخرج رجل في سبيل الله بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء.

و (سئل النبي عليه الصلاة والسلام عن أفضل الجهاد فقال: من أهريق دمه وعقر جواده)، فتبذل مالك، وتقدم نفسك لله رخيصة في سبيل الله لهو من أعظم الأبواب التي تؤدي إلى الجنة، وإن الذي يفهم الجهاد على أنه إراقة للدماء وتشريد وتقتيل وفقر وظنك لا يعرف حقيقة الجهاد، ولا صلة له بالإسلام وأهله ولا يعرف الكتاب العزيز، كما أنه لا علاقة له بسنة النبي عليه الصلاة والسلام.

أما الذين لهم علاقة قوية بالله تعالى فيتمنون أن يلقوا الله عز وجل، فهذا واحد من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام لما (قسم له النبي قسماً من الغنائم قال: ما هذا يا رسول الله! والله ما على هذا اتبعتك، قال: فعلى ماذا اتبعتني؟ قال: اتبعتك على أن أضرب هنا.

وأشار إلى حلقه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إن تصدق الله يصدقك) فقامت المعركة فدخل هذا الرجل في ساحة الوغى فأصيب بسهم في نفس الموضع الذي أشار إليه، رجل صادق مع نفسه ومع ربه ومع دينه ونبيه وشرعه، وهذا هو الصدق مع الله، قال تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:١١٩]، وقال عليه الصلاة والسلام: (لن يغلب اثنا عشر ألفاً من قلة) صبروا وصدقوا، {

<<  <  ج: ص:  >  >>