للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[تفسير قوله تعالى: (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله)]

ثم يعقب المولى عز وجل بشيء مما اختص به هو ولم يطلع عليه أحد من خلقه، فقال: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الِلَّهِ} [البقرة:٢٨٤]، فقوله: (وَإِنْ تُبْدُوا) أي: وإن تظهروا، (مَا فِي أَنفُسِكُمْ): بالقول أو بالفعل، {يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة:٢٨٤]، وهذه الآية كقوله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:١٨]، وقوله: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} [الإسراء:٨٤] وغير ذلك من الآيات التي أيقن بها الصحابة رضي الله عنهم أنه: (ما من عامل يعمل عملاً إلا ويحاسبه الله عز وجل عليه)، وهذا السياق لم يكن فيه أي إزعاج للصحابة؛ لأنهم يعلمون علماً يقينياً أن الله تبارك وتعالى سميع، عليم، مطلع على أعمالهم وأقوالهم، وأنه سيحاسبهم في يوم القيامة على ما عملوا، وعلى ما قالوا، ولكن الذي أفزعهم أشد الفزع، هو قول الله عز وجل: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة:٢٨٤]، أي: وإن تظهروا ما دار في نفوسكم أو تخفوه، {يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة:٢٨٤]، يعني: في الحالتين يحاسبكم به الله، ولكن السياق أتى باختصار جميل فقال: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة:٢٨٤].

ولذلك شق على الصحابة حين نزلت هذه الآية مشقة عظيمة جداً، فقالوا: كيف ذلك؟ فذهبوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام وبركوا وجثوا على ركبهم، وقالوا: (يا رسول الله! أنزلت عليك الآيات، وكلفنا من الأعمال ما نطيق من صلاة وقيام وحج وجهاد وكل ذلك في وسعنا وفي طاقتنا، أما هذه الآية ما نطيقها ألبتة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا، قولوا: سمعنا وأطعنا، فقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، فنزل قول الله عز وجل: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:٢٨٥]، فلما قالوها وذلّت بها ألسنتهم، أنزل الله عز وجل الآية الناسخة لها وهي قوله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة:٢٨٦]).

ولذلك أهل العلم اختلفوا اختلافاً عظيماً في قول الله عز وجل: {أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة:٢٨٤]، هل هذه الآية منسوخة أو محكمة؟ فذهب جمهرة عظيمة من الصحابة رضي الله عنهم وكثير من أهل العلم منهم: ابن عباس في أحد قوليه، وعبد الله بن عمر، وعمر بن الخطاب، وأبو هريرة وغيرهم إلى أنها منسوخة بقول الله عز وجل: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة:٢٨٦]، واستدلوا على ذلك بأدلة منها: قول النبي عليه الصلاة والسلام فيما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم تتكلم أو تعمل)، أي: حديث النفس والهم بالشيء، كأن تحدثك نفسك بأن تفعل شراً، ثم الوازع الإيماني في قلبك يمنعك من فعل هذا لشيء أو حتى من التلفظ به، فعلى مذهب جمهور المحدثين أو مذهب جمهور أهل العلم أن الله لا يحاسبك عليه؛ لأن هذه الآية منسوخة، ولأن هذا الهم وحديث النفس ليس في إمكانك أن تدفعه؛ ولذلك لم يحاسبك الله عز وجل عليه، بدليل قول النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم تتكلم أو تعمل به)، أي: حتى يتجسد هذا الهم وحديث النفس في صورة قول أو فعله.

وفي حديث النبي عليه الصلاة والسلام فيما رواه البخاري ومسلم: (إذا هم عبدي بسيئة فعملها فاكتبوها سيئة، وإذا هم بسيئة فلم يعملها فاكتبوها حسنة)، وهذه الدرجة أعظم من الدرجة الأولى، (وإذا هم بحسنة فعملها فاكتبوها عشر حسنات، فإن لم يعملها فاكتبوها له حسنة، والله يضاعف لمن يشاء)، والراجح أن هذه الآية منسوخة، وهو الذي رجحه الشوكاني وغيره، وهو الذي أميل إليه.

ومن الوسوسة المعفو عنها ما جاء في الحديث: (أن بعض الصحابة أتوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقالوا: يا رسول الله! إنا تحدثنا أنفسنا بكلام

<<  <  ج: ص:  >  >>