للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[تبشير عمرو بأن الحج يهدم الكبائر والصغائر من الذنوب]

(يا عمرو أما علمت أن الحج يهدم ويغفر ما كان قبله؟) أي: من الذنوب، ولذلك قال أهل العلم: الحج يكفر الصغائر دون الكبائر؛ لأن الكبائر تحتاج إلى توبة، أو إلى دخول في الإسلام على حسب الذنب الذي وقع من ردة، أو كفر أصلي، أو حد من حدود الله وقع فيه فيحتاج إلى توبة، أو إقامة حد، أو دخول في الإسلام، لكن مذهب جماهير العلماء: أن الحج يهدم الكبائر والصغائر، وهذا من رحمة الله عز وجل، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من حج فلم يرفث ولم يفسق ولم يصخب رجع من حجه كيوم ولدته أمه).

والمعلوم يقيناً أن المولود يولد من بطن أمه لا ذنب له، وقد شبهه النبي عليه الصلاة والسلام بالمولود حديث الولادة الذي لا ذنب له، لم يبلغ الحلم ولم يجر عليه القلم، فأرجح الأقوال: أن الحج يهدم الكبائر والصغائر.

والحج مفروض على الفور في أصح الأقوال كالصلاة لا يجوز لك أن تؤخرها، وكذلك الزكاة لا يجوز لك أن تؤخرها، والحج كذلك واجب على الفور لمن استطاع إليه سبيلاً، وذهب بعض أهل العلم إلى أن الحج واجب على التراخي، والصحيح الأول.

والإنسان لا يدري حياته من مماته، فيجب عليه أن يعجل بما أوجبه الله تعالى عليه، والاستطاعة لما سئل عنها النبي عليه الصلاة والسلام قال: (الزاد والراحلة)، أي: زاده في الطريق، وزاد من يعولهم حتى يرجع، وأجرة الطريق الراحلة أو الدابة التي يركبها، وكم من ملايين الناس يملكون ملايين الدينارات والجنيهات وإذا سألته عن الحج اعتذر، وقال: أنا ما حججت إلى الآن، وما ذهبت إلى تلك الديار إلى الآن، لم؟ لشغله الذي لا ينتهي، وإذا سألته عن الشغل قال: الولد، البنت، الزواج، البيت، التجارة، الصناعة وغير ذلك من الأعذار التي لا تنفعه بين يدي العزيز الجبار، متى ملكت الزاد والراحلة وجب عليك الحج، ولذلك يجب على كل من ملك الزاد والراحلة أن يبادر من الآن بإدراك موسم الحج في هذا العام، فإن لم يكن فلا أقل من أن يكون في العام المقبل يسعى إلى ذلك جاهداً، كما يسعى للحصول على مغنم من مغانم الدنيا، فإنه يبذل الطاقة والوسع في سبيل الحصول على دنياه، فلأن يبذل ذلك في سبيل حصول دينه من باب أولى وهو الواجب، وإن فرط في الحصول على دنياه، فربما لا يأثم بذلك، أما إذا فرط في واجب وركن من أركان الإسلام، فلا يدري بعد ذلك ما النتائج، كما جاء عن بعض الصحابة رضي الله عنهم، منهم عمر: من ملك الزاد والراحلة فلم يحج فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً.

وكان إذا أرسل عاملاً له على قرية أو مدينة قال: ومن ملك الزاد والراحلة فلم يحج فاقتله.

فحمل بعض أهل العلم ذلك على الزجر الشديد، وحمل البعض الآخر ذلك على ظاهره، أي: أنه يستتاب ثلاثاً فإن تاب وبادر بهذه الطاعة، وإلا قتله الوالي بأمر أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه.

الحج يجب ما كان قبله، وهو من أبر وأفضل الأعمال، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رجلاً قال: يا رسول الله! أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله، قال: ثم أي؟ قال: حج مبرور).

وفي رواية: قدم عليه الجهاد، قال: (الجهاد في سبيل الله.

قال: ثم أي؟ قال: حج مبرور) والحج المبرور: أي: الذي لا إثم فيه، لا فسوق ولا جدال ولا رفث ولا صخب يؤثر على الحج المبرور، ويجعله غير مبرور.

فإذا حج الإنسان حجاً مبروراً غفر له ما تقدم من ذنبه من الكبائر والصغائر.

أما قوله عليه الصلاة والسلام: (ليس للحج المبرور جزاء إلا الجنة، والعمرة إلى العمرة مكفرات لما بينهما ما اجتنبت الكبائر).

و (ما) هنا شرطية، وإذا تحقق الشرط تحقق المشروط، ولذلك ذهب أهل العلم إلى أن العمرة إلى العمرة، والوضوء إلى الوضوء، والصلاة إلى الصلاة، والجمعة إلى الجمعة، وسائر ما ورد في النصوص التي تكفر ما بينهما، تكفر بشرط إذا اجتنبت الكبائر.

كأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: هذه الأعمال وهذه الطاعات تكفر الصغائر إذا اجتنب صاحبها الكبائر.

ومذهب آخر يقول: إن هذه الأعمال تكفر الصغائر مطلقاً إذا اجتنب صاحبها الكبائر أو لا، فكأن السياق والتقدير: هذه الأعمال تكفر صغائر الذنوب دون الكبائر: (ما اجتنبت الكبائر) أي: دون الكبائر.

واعتبروا أن (ما) زائدة، وليست شرطية، وهكذا اختلاف أهل العلم رحمة، فمنه ما كان تهديداً، ومنه ما كان بشارة.

فأما التهديد فيدفع العاصي ليقف عن غيه وطغيانه وتعديه الحد، وأما الطائع فإنما تنفعه البشارة.

وقد درج أهل العلم قديماً وحديثاً على أن الأمة إذا أخذت بالعزائم وسقط أحدها في رزية أو معصية بشروه؛ لأنه من أهل الطاعة ابتداءً، وإذا فرطت الأمة في دينها -خاصة في هذه الأزمان- فينبغي أن تؤخذ بالعزائم والتهديد والوعيد الوارد في الكتاب والسنة.

أسأل الله تعالى أن يغفر لي ولكم، وأن يتقبل مني ومنكم صالح الأعمال والأقوال، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

<<  <  ج: ص:  >  >>