للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[زاد الإيمان المواجه للأزمات العسكرية]

وما يقال في الأزمة المادية يقال في كل أزمة، منها الأزمة العسكرية وفساد السلاح وغير ذلك، فإن كثيراً من الصحابة دخلوا وليس معهم إلا الخيل فقط، لم يملكوا سلاحاً ولا دروعاً، ومع هذا كتب الله تعالى النصر على أيديهم، فحاجة المسلمين في القرون السابقة مثل حاجتنا تماماً الآن، ومع هذا فقد رأينا أن الإسلام احتاج إلى الجرأة والشجاعة والإقدام وبذل النفس، فوجدنا كثيراً من السابقين يبذل نفسه وماله ودمه، فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يأتي بجميع ماله ويضعه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم حتى أشفق عليه النبي عليه الصلاة والسلام وقال: (ما تركت لأهلك يا أبا بكر؟! قال: تركت لهم الله ورسوله) ثم يأتي عمر بنصف ماله، وليس هذا ببعيد ولا بغريب على أمثال هؤلاء الفضلاء العظماء، ورأينا من الناحية الأخرى بذل النفس والدم، ففي معركة اليرموك قال قوم للزبير: ألا تشد يا زبير فنشد معك؟! يعني: ألا تهجم وتحمل على العدو فنحمل معك، فلما حمل عليهم ضربوه ضربتين قويتين على عاتقه، وكان قد ضرب مرة بين هاتين الضربتين في غزوة بدر حتى قال عنه عروة ولده: كنت ألعب وأنا طفل صغير في هذه الضربات بأصبعي، أي: كان يدخل فيها أصابعه ويده يلعب فيها وهي بين عاتق والده.

وبلال بن رباح وما أدراك ما بلال بن رباح! لقد ضرب المثل الأعلى في الجهاد والصبر والدعوة إلى الله، كان يجر في الصحراء وفي رمال مكة الساخنة حتى قيل: إنه سلق لحمه حتى بدت عظامه، وكان تارة يسحب على بطنه حتى انسلخ لحم بطنه وكادت تظهر أحشاؤه؛ كل ذلك لصرفه وزحزحته عن إيمانه، وهو يقول: لا أترك ديني أبداً، أحد أحد، أحد أحد؛ لذلك استحق وسام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو وسام عظيم يذكر إلى أن تقوم الساعة.

قال: أبو بكر سيدنا أعتق سيدنا، وحق لـ بلال أن يكون سيد كل من أتى بعده.

وكذلك نرى من حب النبي صلى الله عليه وسلم والاقتداء به أن أبا بكر في مهاجر النبي صلى الله عليه وسلم لما صحبه وتبعه كان أبو بكر يتقدم النبي صلى الله عليه وسلم ويتأخر، والمعروف من أدب المشي مع الأفاضل والعظماء أن يكون الماشي نهاراً في الخلف وأن يكون الماشي ليلاً في الأمام، وهذا أدب من آداب السير في الطريق إذا كنت تسير مع عظيم كريم، فيجب إن كنتما تسيران ليلاً أن تتقدم عليه؛ لتكشف له الطريق فتوجهه وترشده، وإذا كان السير نهاراً فيجب أن تتأخر عنه، وذلك من الأدب المعلوم، فكان أبو بكر يسير معه فيتقدم ويتأخر، وكان ذلك لحراسة النبي صلى الله عليه وسلم ضد أعدائه وقد سمعتم ذلك من قبل، ولما دخل الغار دخل أبو بكر الصديق أولاً حتى يستكشف الغار وما به من حشرات وآفات وغير ذلك.

والمثال الثاني: مثال أبي ذر الغفاري رضي الله عنه لما قدم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسمع منه القرآن وسمع منه الحديث فانشرح صدره للإسلام فنطق بالشهادة، قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم بعد ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خذها واذهب إلى قومك وانتظر حتى يأتيك أمري) أي: خذها واذهب إلى غفار، وغفار هذه قرية كان القرشيون يمرون عليها في تجارتهم إلى الشام، (فقال: والله -يا رسول الله- لأصدعن بها أو لأصرخن بها بين ظهرانيهم) أي: في الكعبة لقريش، فلما حدث ذلك ضربوه وانهالوا عليه ضرباً حتى أوجعوه كما ذكر البخاري ذلك في صحيحه، حتى خرج عليهم العباس وذكرهم أنه من غفار، وهي قرية يمرون عليها ذهاباً وإياباً في تجارتهم إلى الشام، فرجعوا عنه، ثم عادوا إليه فضربوه، فعلوا ذلك مراراً والعباس يحجبهم ويردهم عنه، ولم يثن ذلك أبا ذر الغفاري عن نشر دين الله عز وجل، والصدع بالدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

<<  <  ج: ص:  >  >>