للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الانعزال عن أهل العلم والفقه في الدين]

المعلم الثاني: أن صاحب الهوى يعرف بانعزاله عن أهل العلم والفقه في الدين، وأنتم تعلمون أن واصل بن عطاء البصري كان تلميذاً في حلقة الحسن البصري، فلما دخل داخل ووجه سؤالاً للحسن: يا إمام! ما تقول في صاحب الكبيرة؟ فكان أدبياً وأخلاقياً وسلوكياً أن يسكت الجميع حتى يتكلم المسئول، ولكن صاحب البدعة يطل بقرنه هكذا من وسط أهل السنة، فقام واصل بن عطاء وقال: صاحب الكبيرة ليس كافراً ولا مؤمناً، وهو مخلد في النار، فهو في الدنيا في منزلة بين المنزلتين، وخلوده ليس كخلود الكفار الأصليين، والحسن ساكت.

ولم يكتف واصل بذلك، بل أخذ ثيابه وانصرف في مؤخرة المسجد -أخره الله تعالى- وأخذ زاوية منه وجلس، وقام من مجلس الحسن أصحاب الهوى وجلسوا مع واصل، فتأسف الحسن لذلك أشد الأسف وقال: اعتزلنا واصل، فسموا المعتزلة بتسمية الحسن البصري لـ واصل بن عطاء، فأنت تجد أن أصحاب الهوى ليسوا من طلاب العلم، وإلا فاذكر لي صاحب هوى الآن في هذا الزمان، واذكر لي على يد من طلب العلم، وهل برك وتمرغ في التراب على أبواب وأعتاب أهل العلم؟! كان أبو موسى الأشعري إماماً في العلم والدين والفقه، وهو من كبار أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن الذي أكبر منه في دين الله وفي العلم والفقه هو: أبو عبد الرحمن عبد الله بن مسعود، فـ أبو موسى الأشعري لما رأى قوماً قد تحلقوا حلقاً في مسجد الكوفة أنكر هذا الوضع أيما إنكار، ولكنه لم يتكلم، فذهب إلى بيت عبد الله بن مسعود، ولم يطرق عليه الباب أبداً حتى خرج إليه - أي: في صلاة الظهر - فلما خرج إليه قال: من؟ أبو موسى؟ قال: نعم.

قال: ما الذي جاء بك، وما الذي منعك أن تطرق علينا؟ قال: انتظرتك يا إمام حتى تخرج.

قال: وما الذي جاء بك؟ قلت: رأيت أمراً منكراً، رأيت أن ناساً قد تحلقوا حلقاً في مسجد الكوفة، وجعلوا على كل حلقة كبير من يلقي إليهم الحصى ويقول: كبروا مائة فيكبرون، سبحوا مائة فيسبحون، هللوا مائة فيهللون.

ومع أن هذا تكبير وتسبيح وتهليل، لكن هذه الكيفية ليس للصحابة عهد بها، فقال عبد الله بن مسعود لـ أبي موسى الأشعري: هلا أنكرت عليهم؟ قال: انتظاراً لرأيك يا إمام! وكان بإمكان أبي موسى وهو من كبار أهل العلم أن ينكر، ولكن أهل العلم درسوا على أنهم لا يتكلمون في قرية فيها من هو أعلم وأفقه، وكانوا يجعلون مدار الفتوى والعلم والتدريس لكبار القوم، وليس لصغارهم وطلابهم، فذهب إليهم عبد الله بن مسعود ووقف على رءوسهم وقال: ما هذا الذي تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن! والله ما أردنا به إلا الخير.

قال: كم من مريد للخير لم يدركه، فإما أنكم على ملة هي أهدى من ملة محمد -يعني: أن الله تعالى أطلعكم على خير قد حجزه عن نبيكم وعن أصحابه- وإما أنكم مفتتحو باب ضلالة.

فهب أننا رأينا هذا المنظر في بيت من بيوت الله، وقال واحد منا ما قاله ابن مسعود لاتهمنا الحاضرون بالتزمت والتشدد والانحراف وغير ذلك، والغلظة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك، حتى قال الراوي: فوجدنا هؤلاء -أي: الذين تحلقوا وذكروا الله- يوم النهروان يقاتلوننا بالسيف.

وذلك لأن الهوى قد تمكن من قلوبهم آنفاً، ألا تعلمون أن أشد الناس خطراً في دين الله عز وجل هم الخوارج والشيعة؟ أوما علمتم أن الخوارج أشد الناس عبادة في دين الله عز وجل، ولكن هيهات هيهات! هيهات هيهات! حتى أجمع أهل العلم على أن الخوارج لا يكذبون؛ لأنهم يكفرون بالمعصية والكذب معصية، فلو أنهم كذبوا لحكموا على أنفسهم بالكفر، بخلاف الرافضة فإن السمة البارزة عليهم الكذب ويسمونه: التقية.

فاعلموا -أيها الكرام- أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إنه سيظهر أقوام في أمتي تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وصيامكم إلى صيامهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية).

يعني: لا عبرة بصلاتهم وصيامهم؛ لأنها تكلف وغلو في دين الله عز وجل، وكل بدعة قامت على الغلو، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لن يشاد الدين أحد إلا غلبه).

وقال: (إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين).

وقال الله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [المائدة:٧٧] (لا تغلوا) أي: لا تغالوا في دينكم.

فصاحب الهوى يعرف بانعزاله عن حلقات العلم، وعن أهل العلم، فإن الذي استقى ما عنده من غير طريق أهل العلم يكون استقاه من هواه، ومن مزاجه ووجده.

ولذلك فإن طالب العلم لا يجوز له أن يعتد بعلمه، ولا أن يفاصل أهل العلم ويتميز عنهم بأي نوع م

<<  <  ج: ص:  >  >>