للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الاستهزاء في الاستدلال بكلام أهل العلم وأخذه إذا وافق الهوى]

العلامة الثامنة: الاستهزاء في الاستدلال من كلام أهل العلم، بل من كلام الله تبارك وتعالى بما يحلو لهم، ويتفق مع هواهم وبدعتهم.

ترى كثيراً ممن يتكلمون بكلام يريد أن يؤيد هواه وبدعته، فيقول: يا أخي! شيخ الإسلام ابن تيمية قال: يجوز حلق اللحية لمصلحة الدعوة، تقول: وأين قال ابن تيمية هذا الكلام؟ يقول: في كتابه: (اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم) وأنت سترى هذا بعينيك وتقرؤه بنفسك، فإذا بك تقرأ بعد أن ملئوا الدنيا صياحاً وضجيجاً أن شيخ الإسلام ابن تيمية قد أفتاهم كتابة ونقلاً عنه أن الواحد له أن يتحلل من مظهره كله، يقول: ولو أن مسلماً في بلاد حرب، يخشى على دينه، ويخشى على نفسه من مظهره الذي يدل على التزامه بدين الله تبارك وتعالى فله أن يتخلى عن مظهره، وأن يحاول الفرار من هذه البلاد إلى بلاد يتمكن فيها من إظهار ذلك.

فلو أنك قرأت كلام شيخ الإسلام ابن تيمية برمته لعلمت أن الفتوى مستقيمة على منهج السلف في الاستدلال، ولكن صاحب الهوى انتزع منها ما يوافق هواه، ثم ينسب هذا لإمام من أئمة الدنيا ثقة عندك وعنده، وإلا لما استدل بكلامه، بل أنكره أصلاً.

وتجد أن الواحد منهم يبغض الشيخ الفلاني، أو الشيخ العلاني أشد البغض، ويتهجم عليه في محاضراته ودروسه وخطبه، وإذا قال الشيخ قولة واحدة توافق هواه يقول: ألم يقل الشيخ الألباني بجواز كشف الوجه والكفين؟ أليس هذا هو شيخكم المبجل الذي هو المرجعية والمنظر عندكم؟ نقول: نعم.

وهذه المسألة مما اختلف فيها أهل العلم، ووسع السلف الخلاف فيها، فنحن لا نحرج على الشيخ وعلى من قال بغيره، وإن كنا نعتقد وجوب الستر إلا أن الشيخ له أدلته، ولم يصدر هذه الفتوى عن هوى، ويكفيك أن تعلم أن معظم أهل العلم وجماهير أهل العلم قالوا بجواز الكشف، لكن الذي يترجح خلاف ذلك، وعلى أية حال: المسألة واسعة إن شاء الله، فانظر إلى هذا الرجل الذي يكره الألباني ويبغضه على كل خط ومدار إلا في هذا الأمر، فيقول: والله نحن نأخذ بفتوى الشيخ الألباني في هذا، فما هو سر هذا التمسك؟ سره أنه وافق عندك هوى، ولو كنت تمسكت بهذا لاستظهار الأدلة عندك لقلنا لك: أنت مأجور عند الله عز وجل، وليس الأمر كذلك.

أو أن صاحب الهوى يأخذ من كتاب الله تبارك وتعالى نصوص الوعد ويترك نصوص الوعيد، أو يأخذ الوعيد ويترك الوعد، أو لا يحمل المطلق على المقيد، أو الخاص على العام، أو لا يقول بالنسخ في القرآن والسنة، أو غير ذلك، ويتغافل عن قواعد الشرك المبنية على النصوص العامة، ويأخذ من النصوص ما يتوجه أن يكون حجة له، لا حجة عليه ويدع الباقي؛ لأنه يعلم أن الزيادة المتروكة حجة لغيره، وهذا بخلاف منهج السلف.

كان الإمام الشافعي رحمه الله يقول: ما ناظرت أحداً إلا وتمنيت أن الحق معه.

هل فينا واحد مهما بلغت استقامته بلغ هذا المبلغ؟ يقول الشافعي ذلك لأنه يضمن لنفسه أن يرجع إلى الحق وأن يقبله، ولا يضمن لغيره، فيا ليت أن خصمي معه الدليل والحجة والبرهان، يا ليتني أستدل له بالمنسوخ ويكون معه الناسخ الذي لم يبلغني، يا ليتني أكون متمسكاً بالعام ومعه المقيد، يا ليتني متمسك بالمطلق ومعه المقيد، وغير ذلك؛ لأني أضمن نفسي - أي: الشافعي - ولا يضمن غيره، فيقول: وددت لو أن الناس تعلموا، ثم لم ينسب إلي منه حرف واحد، وما ناظرت أحداً إلا وتمنيت أن الحق معه.

ويقول كذلك: إذا ناظرت أحداً فربما يكون قولي حقاً، وكلامه أحق مني.

وقد وردت رواية أخرى عنه تقول: قولي صحيح يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ يحتمل الصواب.

وأما نحن فإن أقوالنا كلها صحيحة، وأقوال الأئمة بأسرها خطأ، فيا أخي المسلم! إن سمعت من عالم فتوى فاحمله على أحسن المحامل حتى تجد له في الخير محملاً، إذا سمعت كلاماً لأخيك فاحمله على أحسن المحامل والوجوه.

وشى رجل بـ الربيع بن سليمان المرادي -تلميذ الشافعي - عند الشافعي، فلما بلغت هذه الوشاية الربيع هرول إلى الشافعي وقال: يا إمام! والله ما قصدتك بذلك.

قال الشافعي: والله لو أنك قلته في وجهي لعلمت أنك لا تقصدني.

فأهل الأهواء لا يحسنون الظن بخصومهم حتى وإن كانوا من كبار أهل العلم، ويتصيدون الأخطاء، وإن رجعوا عنها في مواطن أخرى.

فنجد مثلاً: أن بعض أهل العلم في زمن من الأزمنة قد صنفوا كتباً، وتكلموا بكلام، وربما أخطئوا فيه في مكان، فاستدركوا ذلك في نفس الكتاب في مكان آخر، وربما لا يدرون أنهم قد أخطئوا من قبل، ولكن ظهر لهم ما كان قد خفي فصححوا في مواطن أخرى.

أو أن القائل تكلم بمقولة يؤاخذ بها فاعتذر عنها وتاب منها، فيأتي من يأتي بعد ذلك، ولا يلتفت إلى هذا الاعتذار، ولا إلى توبة المخطئ من خطئه، ويشن الحرب الشعواء الضروس عليه، ويقول: هو أشد على الإسلام من اليهود

<<  <  ج: ص:  >  >>