للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[عدم جواز الاحتجاج بالقدر مع عدم الأخذ بالأسباب]

وأما الحالة الثالثة التي لا يصح له أن يشهد القدر فيها: فهي التفريط مع عدم الأخذ بالأسباب، فليس له هنا أن يشهد القدر، ويحتج به؛ لأن هذا هو قول الجبرية الذين ضربوا الشرع بالقدر.

نضرب مثلاً: لو أن رجلاً لعب طوال الليل بالأتاري، وكان في أمر مباح من الساعة العاشرة إلى الساعة الثانية ليلاً، ثم نام حتى ضاعت عليه صلاة الفجر، فلما قام صباحاً، جاءه أخوه فقال: أين كنت؟ لم نرك في صلاة الفجر؟ أكنت مريضاً؟ قال: لا والله، بل كنت نائماً وهذا عذر لي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس في النوم تفريط)، وقد قال الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:٢٨٦]، وقال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:١٦]، قال: وأنا اجتهدت للاستيقاظ في الفجر فما استيقظت، وروحي بيد المليك المقتدر يقبضها حيث يشاء ويرسلها حيث يشاء، فنقول له: إن أصحاب العقائد لا يرضون بكلامك ولا يرضون باحتجاجك بالقدر، قال: قد احتج من هو أفضل مني بالقدر، قلنا: من؟ قال: علي بن أبي طالب، وفاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك حين مر عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (أما قمتما من الليل تصليان؟ فقال علي: أرواحنا بيد الله إن شاء قبضها وإن شاء أرسلها، فولى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يضرب على فخذه ويقول: ((وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً))).

نقول له: هذا المثل أنت منازع فيه، فهل عندك مثل آخر؟ قال: عندي مثل آخر، وهو آكد من الأول؛ لأنه من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه، قلنا: كيف ذلك؟ قال: جاء في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سافر ومعه أصحابه، فأتعبهم السفر في الليل، فقام النبي صلى الله عليه وسلم وقال: من يحرس لنا الفجر هذه الليلة؟ فقام بلال فقال: أنا قائم عليكم -يعني: أنا الذي سأوقظكم في الفجر- فنام النبي صلى الله عليه وسلم ونام الصحابة فنام بلال وغلبته عيناه، وما قام النبي صلى الله عليه وسلم حتى أشرقت الشمس، وما أيقظ عمر إلا حرُّ الشمس، فذهب فزعاًً إلى رسول الله فأيقظه، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فأيقظ أصحابه، وكادوا يموتون، يقولون: لم نصلِّ الفجر في وقته؟! ورسول الله لم يصل الفجر في وقته؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم محتجاً بالقدر: أرواحنا بيد الله يمسكها كيف يشاء أو حيثما شاء، ويرسلها حيثما شاء، انطلقوا من هذا الوادي؛ فإن في هذا الوادي شيطاناً، فانطلقوا ثم توضئوا ثم صلوا بعد ذلك الفجر).

وأنا أحتج بما احتج به النبي فأقول: روحي بيد الله! إن شاء أرسلها وإن شاء قبضها سبحانه جل في علاه.

وقياسه على فعل النبي صلى الله عليه وسلم قياس مع الفارق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن السمر بعد العشاء، وأنت سمرت بعد العشاء، وضيعت الوقت، ولم تستيقظ الفجر بفعلك أنت، وبمعصيتك أنت، فليس لك أن تشهد القدر هنا؛ لأن القدر ليس حجة للعاصي، فليس للسارق أن يقول: سرقت بقدر الله، وليس للزاني أن يقول: زنيت بقدر الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين القوي وبين الضعيف، فالقوي محمود، لكن الضعيف مذموم، والضعيف هو الذي لم يأخذ بالأسباب الشرعية.

الأول: أن الله جل في علاه قد أثاب على فعل العبد وعاقب عليه، ونسب الفعل للعبد، قال الله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم:٤١]، وقال الله تعالى: {وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الجاثية:٢٢]، وقال تعالى أيضاً: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الواقعة:٢٤]، فجعل العمل هو الذي يثاب عليه المرء أو يعاقب عليه، فليس له أن يحتج بالقدر، بل بفعله يحمد أو يذم.

الأمر الثاني: أن الأمر الاختياري والأمر الاضطراري معروف جداً بين الناس، فلو قلت لرجل الآن: مكتوب في اللوح المحفوظ أنك ستلقي بنفسك من الشباك، فإذا وقع على رأسه قال: قدر الله وما شاء فعل، فهذا غير مقبول.

كذلك: لو أن رجلاً سرق مال رجل، فوجده صاحب المال فقال له: سرقت مالي، فقال: يا أخي! ألا تؤمن بعقيدة نبيك صلى الله عليه وسلم؟ ألم تعلم أن الله قدر علي أن أسرق مالك؟! قال: نعم، قدر الله أن تسرق عليَّ المال، فقام وضربه على وجهه، وقال له: قدر الله أن أضربك على فعلك هذا.

ونذكر قصة مشهورة جداً، تبين علة من يحتج بالقدر على المعصية، وهي قصة المرأة التي كانت من الجبرية ومعها زوجها، فدخل الزوج ذات مرة فوجد عليها رجلاً آخر، فقال: فأخذ السيف ليقتل هذا الرجل، فقال له وكان على عقيدته: مهلاً، والله ما وقعت عليها إلا بقدر الله، فقال: آمنت بالله.

فقالت المرأة: والله إن هذا لمذهب سوء، ولا يمكن لي أن أتبنى هذا المذهب.

فأصبح ديوثاً بالاحتجاج بالقدر.

ولما جيء بسارق إلى عمر بن الخطاب قال: (اقطعوا يده، فقال: مهلاً يا أمير المؤمنين! والله ما سرقت إلا بقدر الله.

فقال عمر رضي الله عنه: ونحن والله لا نقطع يدك إلا بقدر الله جل في علاه).