للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[حكم الاستعانة بالحسابات الفلكية]

المسألة الثانية مما يتعلق بهذا الحديث: (إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا) أن الشرع علق ثبوت قدوم شهر رمضان أو ثبوت ظهور الشهر برؤية الهلال، والمعلوم أن شهر رمضان يعرف بأمرين قد اتفق العلماء عليهما، وبأمر ثالث اختلف العلماء فيه، فالأمران اللذان اتفق العلماء عليهما هما: الأول: رؤية الهلال، فإذا رأوا الهلال سواء كان في بلد أو في غيره وجب عليهم أن يصوموا؛ لقول الله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:١٨٥]، فجعل شهود الشهر برؤية الهلال، ولابد أن نفسر القرآن بالسنة، فقد قال رسول الله: (إذا رأيتموه) والرؤية هنا هي الرؤية البصرية، ولا يصح حمله على غيرها، والمعنى: إذا رأيتموه بأعينكم وبها يثبت الشهر.

الأمر الثاني: فبإتمام شعبان ثلاثين يوماً، وهذا بالاتفاق، ويكون الاتفاق حينما يكون الجو صحواً لا غيم فيه؛ لأن الخلاف كله في الغيم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن غبي أو فإن غم عليكم).

الأمر الثالث وهو المختلف فيه: إن غم عليكم أو غبي عليكم، قال بعض العلماء: يعرف بالحساب الفلكي، فالذين يعرفون ويتدبرون منازل القمر يخبرون متى يولد الهلال ومتى يكون كالعرجون القديم، ومتى يكون كذا، وعلماء الحسابات الفلكية عندهم المناظير، وعندهم كل شيء علمي، فالله جل وعلا حباهم ذلك، فاستخدموا وطوعوا هذا العلم المعروف بعلم التكنولوجيا ليعرفوا منازل القمر إذا كان خلف الشمس، ومتى يدور الدورة الكاملة ليكون في الناحية الثانية، وفي آخر الشهر يكون كالعرجون القديم فيكون في الناحية المقابلة، وهذا كما قال ابن تيمية لا يكون إلا بعد ليلة كاملة.

فالمقصود أن أهل الخبرة بالمطالع والمنازل ينظرون في منازل القمر، ويعرفون بالحساب متى يظهر وأين يظهر، وأي مكان يكون فيه الهلال، فمن قال بالاستعانة بالحسابات الفلكية قالوا: عندنا أدلة تعضد ما نقول به؛ لأن الحسابات الفلكية الآن ظهرت وأصبحت من الدقة بمكان، والعلم هذا لابد أن نستخدمه لله جل في علاه، فمن هذه الأدلة: أولاً: أن هؤلاء أتقن وأعلم منا بهذا الحساب، وقد قال الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:٤٣] فالآية عامة، وهم من أهل الذكر.

الأمر الثاني: أنهم قالوا بأن النظر يعضد هذا، فإن الله جل في علاه قد أمر بالصيام عند رؤية الهلال، سواءً رآه المسلم أو لم يره؛ لأن الأعمى لا يراه، كما أنه قد يكون أهل بلدة ما قدر الله عليهم مثلاً ألا يروا الهلال، فلا يصح أن نقول هنا: إن المقصود هو رؤية الهلال، وعلماء الحسابات الفلكية يعلمون متى وأين يطلع الهلال، فقالوا: إذاً من النظر أنه لابد علينا أن نأخذ بهذه الحسابات الدقيقة.

وهذا القول للمُحْدَثين من الفقهاء ولم يكن في القرون الخيرية الثلاثة الأولى أبداً، بل هو لبعض المتأخرين من الفقهاء، وهؤلاء أيضًا ما قالوا بهذه التوسعة التي نراها في هذه العصور، بل قالوا: إن الذي عنده علم بالحساب الفلكي ويدقق النظر فيه فله أن يصوم بنفسه فقط ولا يأمر غيره، فليس له أن يذهب إلى القاضي ولا إلى ولي الأمر ليأمر الناس بالصيام، بل ما يفعله ديانة هو أن يصوم بنفسه ولا يلزم غيره، وأما المعاصرون فقد أوسعوا المسألة بحثاً وقالوا: كل الناس يلزمون بذلك، وخالفهم جمهور أهل العلم في هذا، واستدلوا على ذلك بأدلة كثيرة: أولاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم أناط مسألة الصيام بالرؤية، فقال صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا) وتعليق الشرع بالرؤيا مقصوده الرؤيا البصرية بالعين المجردة، وهذه لا مدخل ولا نظر فيها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا رأيتموه) يعني: بأم أعينكم، (إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا).

وكذلك قول الله تعالى: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:١٨٥] وشهود الشهر يكون بالرؤية.

ولحديث النبي صلى الله عليه وسلم وهو الفاصل في النزاع: (إنا أمة أمية لا نحسب ولا نكتب، فإذا رأيتموه فصوموا)، فهذا كأنه تفسير لقوله: (إنا أمة أمية) بمعنى: إنا لسنا بصدد الحساب الفلكي، (لا نحسب ولا نكتب، فإذا رأيتموه) فنفى الاعتماد على الحساب؛ لأننا أمة أمية لا نحسب، وعلق الحكم بالرؤية.

قالوا: ومن النظر أن علم صيام الشهر بالحساب الفلكي فيه تعليق بما يشق على الأمة، فقد نكون غير متحضرين وليس عندنا تكنولوجيا ونحن في فقر مدقع لا نستطيع أن نحسب، فهذا تعليق لحكم الشرع بما يشق على الناس، وهذا مخالف للتأصيل الشرعي العام: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:٢٨٦] {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:٧].

والوجه الثاني من النظر: أن إلزام الناس بالحساب الفلكي تكلف وحرج في الدين، وقد رفع الله الحرج عن الدين، وأيضًا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (هلك المتنطعون)، وأمره الله أن يقول: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:٨٦].

فهذان قولان في مسألة الحساب الفلكي، والصحيح الراجح: أن من قال بالحساب الفلكي فقد أبعد النجعة، ولا يصح بحال من الأحوال الاعتماد على الحساب الفلكي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين أن هذه الأمة أمية لا تحسب ولا تكتب، ولابد أن تأخذ بما أناط الشرع به، والقاعدة عند العلماء: إذا أناط الله الحكم بوصف فلا يصح إلغاؤه وإدخال وصف غيره، فالله جل وعلا أناط حكم ثبوت الشهر بوصف وهو الرؤية، فلا يصح إلغاء ما علق الله به الحكم، وإثبات ما ألغى الله عنه الحكم، فتعليق الله الحكم لثبوت الشهر بالرؤيا هو الوصف الصحيح، وإلغاؤه حكم ثبوت الشهر بالحساب الفلكي.

وقد ألغاه الله على لسان النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال: (نحن أمة أمية لا نحسب) فألغى أن يحكم الشرع بوصف الحساب، وأناط الحكم وعلقه على الرؤية، فمن قال بالاعتماد على الحساب الفلكي فقد ألغى ما اعتبره الله وصفاً في الحكم، وأثبت ما ألغاه الشرع وصفاً للحكم؛ ولذا نقول: من قال بالاعتماد على الحسابات الفلكية فقد أخطأ وأبعد النجعة.

وهناك وصف آخر قال به بعض المعاصرين، فقالوا: نحن نعتمد على الرؤية ونستأنس بالحساب الفلكي، قلنا: هذا قول وجيه لكنه مخالف لظاهر الحديث، وإلا فإن من قال بأنه يستأنس بالحساب الفلكي ويأخذ بالرؤية إذا نظرت ودققت النظر فيه لا يخرج ولا ينظر إلى الرؤيا، بل يعتمد على التكنولوجيا والعلم المتحضر، ولسان حاله يقول: نحن في القرن العشرين، فلماذا نذهب إلى أهل الجاهلية؟! فعندنا علم متحضر يحسب لنا منازل القمر فنعتمد عليه، فالكلام من بعض المعاصرين: أننا نعتمد على الرؤية ونستأنس بالحساب الفلكي وسيلة إلى إلغاء ما اعتبره الشرع! والوسائل لها أحكام المقاصد، فنقول: هذه وسيلة وذريعة إلى أن تلغي ما اعتبره الشرع -وهو رؤية الهلال- وتكتفي بعد ذلك بالحساب الفلكي؛ لأنك لا تستأنس بالحساب الفلكي إلا وأنت تحسن الظن بهذه الحسابات، وهي نظريات تخطئ وتصيب.

<<  <  ج: ص:  >  >>