للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[شبهة استحالة التعدد في الزمن المعاصر والرد عليها]

أول هذه الشبه: استحالة التعدد في هذا الواقع المعاصر، فإن سئلوا لم هذه الاستحالة؟ قالوا: عندنا أدلة من الكتاب والسنة باستحالة ذلك، أما من الكتاب فقد قال تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء:١٢٩]، فعلّام الغيوب بين لنا أن المرء لن يستطيع بحال من الأحوال أن يعدل، حتى ولو جاهد نفسه للعدل، فلن يستطيع العدل، فإذا لم يستطع العدل ظل الشرط موجوداً والله يقول: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء:٣].

والرد على هذه الشبهة القوية أن يقال: نعم! قال الله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا} [النساء:٣]، ونحن نقول بهذه الآية فمن خاف عدم العدل وجب عليه أن لا يعدد؛ لأنه سيقع في الظلم، والظلم ظلمات يوم القيامة، والله حرم الظلم على العباد كما حرمه على نفسه، أما إن كان الرجل يعلم من نفسه أنه سيعدل بين النساء فله أن يعدد.

والعدل المقصود به في هذه الآية {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا} [النساء:٣] هو عدل المبيت والنفقة والمسكن، والواجب هو العدل في النفقة والقسم والمسكن، كأن تسكن هذه في سكن وتسكن الأخرى في سكن، وكأن تبيت مع هذه ليلة وتبيت مع الأخرى ليلة مثلاً، فلابد أن يعدل فيكون لهذه ليلة أو هذه ليلة وهذه أسبوع والأخرى أسبوع حسبما يتفق الزوجان في مسألة القسم، ويعدل في النفقة، وفي حسن المعاشرة والتعامل، وفي السكن، كل هذا من باب العدل الذي أمر المرء أن يأتي به في هذه الآية، فالمقصود أن من استطاع أن يفعل ذلك فله أن يعدد فإن لم يستطع فليقف عند بابه ولا يتجرأ حتى لا يقع في المظلمة.

أما الآية الأخرى وهي قوله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء:١٢٩] فإن المقصود بها: العدل الباطني وهو ميل القلوب، وميل القلوب، لا يملكها إلا صاحب القلوب.

ويجلي ذلك النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان يحب عائشة حباً جماً، وكان يقسم بين نسائه حتى أنه لما قالت له عائشة: تحبني؟ قال: نعم! أحبك.

قالت: ما دليلك على ذلك؟ فضرب بيده فوجد درهما فأعطاها درهماً قال: هذا الدليل على حبي لك، فحسبت أنها قد استندت بهذا الدرهم وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد خصها به، فطاف النبي صلى الله عليه وسلم على النساء التسع فأعطى كل واحدة منهن درهماً، فقالت مترفعة عليهن: يا رسول الله! من أحب النساء إليك، فقال: التي أعطيتها الدرهم، فوقفت أمامهن تفخر وهي معها الدرهم وهن معهن الدراهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم قسم هذه الدراهم قسمة عدل ظاهرة أما في الباطن فكانت أحب النساء إليه هي عائشة كما في الصحيحين عن عمرو بن العاص قال: (يا رسول الله! من أحب الناس إليك؟ قال: عائشة، قال: لست أسأل عن النساء بل عن الرجال، قال: أبوها) فإن عائشة كانت أحب النساء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، كما أنه في مرض موته كان يقول: (أين أنا غداً؟ أين أنا اليوم؟) ففهم أمهات المؤمنين من النبي صلى الله عليه وسلم أنه يريد أن يطبب عند عائشة فأذن له أن يكون عند عائشة، فهي أحب النساء إليه، ومع ذلك كان يقسم قسمة العدل، وكان يقول: (اللهم إن هذا قسمي فيما أملك -في النفقة والسكنة وحسن المعاشرة والملاطفة- فلا تؤاخذني فيما تملك) وهو الميل القلبي، وبذلك علم أن المقصود بهذه الآية: ((وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا)) [النساء:١٢٩] الميل القلبي أما الأصل إن استطعت فلك أن تعدد.

<<  <  ج: ص:  >  >>