للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[تقسيم الكفر إلى نوع وعين والتفريق بينهما]

إن هناك فرقاً بين تكفير النوع وتكفير المعين، فمن قال: القرآن مخلوق فقد كَفَر كُفْر نوع، وأما الشخص الذي قال هذه المقولة فلا أكفره، ولابد من إثبات ذلك بالأدلة بـ (قال الله، قال رسوله)، قال الشاعر: العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين قول فقيه والأدلة على التفريق بين النوع والعين كالتالي: أما السنة فمنها: حديث الرجل الذي قال لأولاده: إذا أنا مت فأحرقوني ثم ذروني في البر والبحر؛ لأن الله لو بعثني لعذبني بهذه المعاصي، فهو مؤمن بقدرة الله، وهو يؤمن بأن الله يقيمه مقامه ثم يعذبه، فهو يخاف ويرجو الله جل وعلا، وقد اتفق المسلمون جميعاً: أن الذي يقول: إن الله لا يقدر على شيء، فحكمه أنه مكذب بالقرآن، قال تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء:٨٧].

وقال تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:١٢٢]، والله جل وعلا يقول: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:٢٠].

فمن قال: إن الله لا يقدر على أن يبعثني مثلاً فهذه المقولة كفر باتفاق المسلمين، لكن ننظر إلى هذا الكفر هل يقع على نفس العين أم لا؟ فالرجل لما بعثه الله -كما بين لنا النبي صلى الله عليه وسلم- قال له ربه: (ما الذي حملك على هذا؟ قال: مخافتك، أو قال: أرجو رحمتك، فغفر الله له وأدخله الجنة).

فوجه الدلالة هنا: أن الرجل أتى بكفر باتفاق علماء المسلمين؛ لأنه ضل في باب القدرة، لكنه كان جاهلاً، فأتى بكفر نوع لا كفر عين، فلما كان جاهلاً عذره الله بجهله، ثم أدخله الجنة، إذاً: لو قال أحد كلمة الكفر فلا نستطيع أن نقول: هو كافر، بل نقول: أتى بكلمة الكفر، لكن هو ليس بكافر إلا إذا أقيمت عليه الحجة، وأزيلت عنه الشبهة.

الدليل الثاني: أن صحابياً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يلقب بحمار، رضي الله عنه وأرضاه، وكان شراباً للخمر كثيراً، ويؤتى به كثيراً فيجلد كثيراً، فقال خالد: لعنة الله عليه؛ ما أكثر ما يؤتى به، ونحن نعلم أن شارب الخمر ينزل تحت اللعن، فقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر عشرة منهم: شاربها، إذاً فشارب الخمر عموماً ملعون، وهذا حكم على النوع لا على العين، فلما كان يؤتى بهذا الرجل الذي يشرب الخمر فيجلد، ثم يشرب ثم يجلد قال خالد: لعنة الله عليه، فأوقع الحكم العام على عين هذا الشخص، كما في الحديث: (لعنة الله عليه؛ ما أكثر ما يؤتى به، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم منكراً عليه: يا خالد لا تعن الشيطان عليه، إني لأعلم أنه يحب الله ورسوله)، فهذا الحديث فيه دليل على أنه خارج من اللعن، مع أن شارب الخمر ملعون، والرجل قد يقع في الكفر، لكننا لا نستطيع نكفره، لأن هناك موانع تمنع أن نكفره، فقد يكون الفعل كفراً والقول كفراً، لكن القائل والفاعل لا يمكن أن نخرجه من حظيرة الإيمان إلا بضوابط كما سأبينها، إذاً: فالرجل شرب الخمر والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لعن الله في الخمر عشرة منهم: شاربها) ومع ذلك قال: هذا ليس بملعون، وهذه دلالة على أن الحكم العام لا يسقط على الشخص لموانع معينة.

إن من قال: إن القرآن مخلوق، قد فصل حكمه تفصيلاً بديعاً إمام أهل السنة والجماعة، الإمام أحمد بن حنبل مفخرة المسلمين، وإمامهم، فكان رضي الله عنه وأرضاه يقول: من قال: إن القرآن مخلوق فهو كافر، ومع ذلك فتنه المأمون وغيره من حكام الدولة العباسية، وقصصه مع من قال بخلق القرآن مشهورة جداً، حيث إنهم قالوا: القرآن مخلوق، واستدلوا بقول الله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف:٣]، وقوله: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام:١].

ومعناها كما يزعمون: خلق الظلمات والنور، فقالوا: جعله قرآناً عربياً، يعني: خلقه قرآناً عربياً، فرد عليهم الإمام أحمد فقال: قال الله تعالى: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:٥].

فقد خلقهم الله بشراً، فهل جعلهم كعصف مأكول يعني: خلقهم كعصف مأكول، بل حولهم بالحجارة إلى عصف مأكول، والغرض المقصود من ذلك أن الإمام أحمد هو القائل: من قال: القرآن مخلوق فهو كافر، ومع ذلك لما قالوا له: نخرج على المأمون، قال: لا، وإني لأصلي خلفه، وإني لأدعو له بالتسديد والتوفيق، وأرى ذلك واجباً علي، وكأنه يقول: ولي أمري وإن أخطأ وأتى بالكفر، فإني لا أكفره عيناً، مع أني أقول: من قال: القرآن مخلوق فهو كافر، وإني لا أتجسر على تكفيره، بل له علي السمع والطاعة، والدعاء بالتسديد والتوفيق، والصلاة خلفه، والغزو معه.

فهذا إمام الأئمة إمام أهل السنة والجماعة يؤصل لنا هذا الأصل: أنه حتى لو أتى الأمير أو ولي الأمر بمكفر فلا نستطيع أن نكفره بهذا أبداً، ولا يتجاسر ولا يجرؤ على ذلك إلا جريء، فهذا من أقوال الأئمة الذين فرقوا بين كفر النوع وكفر العين.

<<  <  ج: ص:  >  >>