للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[تعرضه للإيذاء]

أختم كلامي بسنة كونية وهي: ما بزغ نجم عالم أو طالب علم إلا ظهر له من يحقد عليه ويحسده ويوشي به، ويقلل من شأنه ويجهله، وهؤلاء صنفان: صنف يجهل ما يقوله العالم أو طالب العلم، فهذا أحسن من الصنف الثاني؛ لأنه إذا تعلم سكت، وإذا أنصت وعلم قدر العالم عظمه وأعلى شأنه وسكت عن الكلام فيه، وقد قعد لنا علي بن أبي طالب قاعدة عظيمة في هذا الباب طبقها إمام أهل السنة والجماعة، فإن علياً قال: من جهل شيئاً عاداه، وأما التطبيق فقد كان للإمام أحمد عندما قيل له: إن يحيى بن معين يتكلم في الشافعي ويجرحه، فاشتدت دهشته وقال: أو تكلم يحيى بن معين في الشافعي؟! قالوا: نعم تكلم في الشافعي، فقال الإمام أحمد: إن يحيى يجهل ما يقوله الشافعي، ومن جهل شيئاً عاداه؛ ولذلك كانوا يجهلون علم شيخ الإسلام فيقولون: نسأله في المسألة في المشرق فيأتي بالمشرق والمغرب والجنوب والشمال، فقال ابن القيم مذيلاً يبين لنا ويوضح أن هذا من آفة الجهل: وهذا من سعة علم شيخنا وجهلهم وضيق أفقهم.

وأما الصنف الثاني من هؤلاء فهم أهل الحسد والحقد، والحسد مذموم في كل الشرائع، وقد نهى عنه الشرع نهياً جازماً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ولا تحاسدوا)، فهو داء عضال، نسأل الله جل في علاه أن يعافينا منهم، فالحاسد محترق، لا يرضى إلا بموت المحسود، وزوال النعمة عنه، فيطلق بصره ولسانه ويده على المحسود، يتمنى أن يمنع عنه خير ربه وليس بمانع، وهذا الصنف أشر على العلماء وعلى طلبة العلم من الجهال، وهؤلاء أصناف كثيرة عادوا شيخ الإسلام في دمشق وفي مصر، أما في دمشق فقد كان أعلاهم شأناً المنصوري، وأما في مصر فكان زين الدين بن مخلوف، فهؤلاء رموا شيخ الإسلام بالجهل والتجسيم، بل كفروه بعد ذلك، ولاقى ما لاقى من التعذيب والإهانة والسجن والضرب والنفي بسبب وشاية هؤلاء، فإن شيخ الإسلام لما قام بتعليم الناس وربطهم بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ونبذ التقليد وتعظيم الأشخاص فوق دين الله جل في علاه، أغاض بذلك أهل الهوى وأصحاب التقليد الأعمى وأصحاب المآرب والكراسي، فرموه بكل لقب سيء يريدون بذلك صد الناس عنه، وإخماد دعوته والتعمية عليهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله، لكن نقول كما قال الله: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:٢١].

فالمبتدعة نفاة الصفات قالوا عنه: إنه مجسم؛ لأنه أثبت صفات الله كما أثبتها الله لنفسه وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم، وأما المقلدة العميان المتعصبة للفقهاء فقالوا: قد خرق الإجماع وعادوه بل كادوا يقتلونه من أجل مسألة التبرك، والطلاق ثلاثاً والطلاق في الحيض.

وقال القبوريون الذين يعظمون الأولياء فوق تعظيمهم لرسول الله، بل فوق تعظيمهم لله جل في علاه: إنه يبغض الأولياء ولا يعظم الرسل والأنبياء إلى آخر هذه الافتراءات والأباطيل على شيخ الإسلام.

فلا غرو ولا عجب أن هذا الموقف لا يقف عند شيخ الإسلام بل يتكرر كثيراً مع كل مصلح، أو مجددٍ، أو مجتهد يدعو إلى دين الله جل في علاه، الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويدعو إلى نبذ ما خالفهم، وعدم التعصب للأشخاص مع إجلالهم وتقديرهم، ومهم جداً أن تعرف قدر العظماء والأفاضل والأماجد والأكارم، لكن لا ترفع قدرهم فوق رسول الله، ولا فوق شريعة النبي صلى الله عليه وسلم، بل يجب عدم التعصب للأشخاص مع إجلالهم وتقديرهم، ودون الغلو فيهم، والعاقبة لابد أن تكون لهؤلاء العلماء الربانيين بفضل الله جل في علاه؛ لأن ما كان لله دام واتصل، وما كان لغير الله انقطع وانفصل، قال الله تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد:١٧]، وما زلنا حتى الآن نتكلم عن شيخ الإسلام وعن فضله، وعن كتبه، وما زال الناس يعظمونه ويعظمون شأنه ويدرسون كتبه، فإن من أراد الله أراد الله له ما يريد، فيا فوز العلماء! ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم على الهدى لمن استهدى أدلاء وقدر كل امرئ ما كان يحسنه والجاهلون لأهل العلم أعداء ففز بعلم تعش حياً به أبداً الناس موتى وأهل العلم أحياء أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم! وأترك المجال لشيخنا ليشنف آذاننا بما عنده، جزاه الله خيراً.

<<  <  ج: ص:  >  >>