للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[بعض صفاته]

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وآله وصحبه.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أما بعد: فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن بني إسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه آخر، أما هذه الأمة فإن الله تعالى يبعث لها على رأس كل مائة عام من يجدد لها أمر دينها)، هذا الحديث رواه الإمام مسلم في صحيحه، وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى واحد من هؤلاء الأماجد الذين ملئوا الدنيا، وعلموا الناس، وهو حقيق بقول الشاعر المتنبي: أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم هذا غيض من فيض في حق هذا الإمام الجليل، ونحن الليلة نتطفل على مائدة شيخ الإسلام ابن تيمية وننهل من معينه الذي لا ينضب، ونوره الذي لا يكاد ينقضي، فهو شمس أرسلت أنوارها المتجددة إلى عالم ما وراء الزمان والمكان، فهذا الشيخ الجليل العظيم رفع الله تبارك وتعالى له ذكره؛ لأنه أفنى عمره في خدمة دين الله تبارك وتعالى، هذا الرجل الذي أحيا ما اندرس من معالم السنة، وجدد شرع الله تبارك وتعالى، ورفع لواء العقيدة السلفية، وجاهد على كافة الأصعدة، جاهد في الله تبارك وتعالى بالسيف والسنان في سبيل إعلاء كلمة الله عز وجل، وزهد في كل منصب من مناصب الدنيا الفانية، ولقد كان في وسعه أن يكون أميراً على بلد كامل، لكنه رفض ذلك وقال: أنا رجل ملة ولست رجل دولة، وهكذا فقه مراد الله عز وجل فوظف نفسه لخدمة شرع الله تبارك وتعالى.

فـ ابن تيمية ليس رجلاً عادياً إنما هو مفخرة من مفاخر الأمة الإسلامية، وطود شامخ، وصانع من صناع التاريخ، وأمة سكبت في رجل، ومنهج صيغ في شخص، وتاريخ كتب باسم إنسان، هذا هو شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تبارك وتعالى.

صفحات حياته مضيئة، مشرقة بالأنوار الهادية التي لا تكاد تنقضي، فعندنا نحن المسلمين من بين سائر الأمم من هذه الشخصيات القيادية الريادية ما تخضع لها أعناق الأمم والشعوب، مثل ابن تيمية الذي كتب بأحرف من نور على جبين الزمن فعاش من الخالدين؛ لأن الله تبارك وتعالى لا يضيع أجر المحسنين، وهي سنة كونية تعمل في هذا الكون، أن الله تعالى لا يضيع أجر من أحسن عملاً، فهذا الرجل الذي خلط روحه ودمه بشرع الله عز وجل، ووصل ليله ونهاره لخدمة منهج الحق، هذا الرجل رفعته الأمة فوق رءوسها، وما زال صدى شيخ الإسلام ابن تيمية يتردد في آفاق العالم كله.

أما الذين ناصبوه العداء ورموه عن قوس واحدة، وفتحوا له أبواب الزنازين والمعتقلات، وأفتوا بإهراق دمه، فقد أخمد الله تبارك وتعالى ذكرهم، فإذا بهم يرقدون الآن صرعى تحت أنقاض الزمن، أما هو فقد جدد الله تبارك وتعالى له ذكره، ورفع له قدره، وصارت الأمة الآن خلفه حتى أن المحاكم الشرعية في سائر أقطار العالم الإسلامي تتبنى اجتهادات ابن تيمية التي كان يطعن بها عليه، وأصبحت الآن منهجاً مقرراً في القوانين والدساتير التي تخط في تلك المحاكم، ورجل كهذا لابد أن يأخذ دوره الريادي، فهو بحق رجل لكل العصور، وابن تيمية جدد منهاج السلف في فترة -لو تعلمون- كانت أنوار السلف فيها خافتة، وظلمات البدعة قد عمت الآفاق حتى أشرقت شمس ابن تيمية فبددت تلك الظلمات، حارب الصوفية الغلاة، وحارب الفرق المنحرفة المبتدعة، وأظهر منهاج السلف، وكتب في كل صعيد، ولم يكتف بالكتابة، وإنما ربى أمة من أفاضل العلماء، حملوا منهاج النبي صلى الله عليه وسلم، وليس هذا فحسب، بل هو الرجل القانت الزاهد الأواب الذي يئوب إلى ربه تبارك وتعالى، ويستعينه في كل معضلة.

إنك إذا تأملت سيرة ابن تيمية فإنما تقرأ قصة رجل صنعه الإسلام وصاغته الشريعة الإسلامية لتبين للناس عبقرية الإسلام في إخراج أبناء الإسلام الذين يلفتون الأنظار إلى شرع الله تبارك وتعالى، هو الرجل المجاهد في سبيل الله، القوام بالحق، الرجل الزاهد، الرجل الأسيف الذي يبكي من خشية الله وتضطرب فرائصه وترتعد فرقاً من الله تعالى، وهو الرجل الذي يرفع حوائجه إلى الله جل وعلا، وهو الرجل الذي يقول عن نفسه: وكانت تشكل عليّ المسألة فأهرع إلى المساجد المهجورة وأعفر وجهي في التراب وأسجد وأبكي وأقول: يا معلم إبراهيم علمني، ويا مفهم سليمان فهمني، فعلمه معلم إبراهيم وفهمه مفهم سليمان سبحانه وتعالى.

فارفعوا عقيرتكم بالجؤار إلى الله عز وجل في كل أمر صغير أو حقير من أمور هذه الحياة، فقوة الإيمان صفحة واضحة المعالم في حياة ابن تيمية رضي الله تعالى عنه.

<<  <  ج: ص:  >  >>