للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[خلاف العلماء في حكم إرضاع الكبير]

اختلف فيها العلماء على أقوال ثلاثة: القول الأول: ذهب جماهير أهل العلم إلى أنه لا رضاع للكبير، وأنه لا يحرم، وهذا هو قول الشافعية والمالكية والأحناف، وعلى ما أذكر قول الحنابلة أيضاً، وهو قول جماهير الصحابة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ويستدلون بقول الله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ} [البقرة:٢٣٣]، فالشافعية قالوا: قد أتم الله الرضاعة إلى الحولين، فما بعد التمام من شيء إلا النقصان، فلا يحرم ما فوق الحولين.

واستدلوا على ذلك أيضاً: بقول الله تعالى: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان:١٤]، وأيضاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا رضاع إلا في الحولين)، وهذا تصريح أنه لا رضاع محرم إلا في الحولين، وقال النبي صلى الله عليه وسلم يبين لما سألوه عن الرضاع: (ما أنبت اللحم وأنشز العظم)، أي: تغذت به المعدة وشبع به الطفل، ولا يشبع الطفل من اللبن إلا في غضون الحولين، وبعد الحولين لا يشبعه لبن المرأة، فكل هذه دلالات باهرات تثبت أن رضاع الكبير لا يحرم.

وقالوا: إن رضاع سالم مولى أبي حذيفة حالة خاصة بـ سالم، خصص بها العموم، ويرجع العموم على ما هو عليه.

ولعل النبي صلى الله عليه وسلم خصصه لأن سالماً كان مولى لـ أبي حذيفة، وكان الرجل يدخل دائماً على امرأته، فلما نزل الحجاب قالت: شق علينا أن يدخل ويرانا بهذه الطريقة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أرضعيه يحرم عليك)، فكانت هذه حالة خاصة بها وبـ سالم وبـ أبي حذيفة، فقالوا: هذه دلالة على الخصوصية، وليس هذا من جهة أنفسنا، وهو من كلام أم سلمة وزينب وغيرهن من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، حتى أنهن أنكرن على عائشة رضي الله عنها وأرضاها، والحديث صريح صحيح أن أم سلمة دخلت على عائشة رضي الله عنها وأرضاها تنكر عليها، وتقول: يا عائشة! يدخل عليك الشاب الأيفع، ولا نرضى أن يدخل علينا، فقالت عائشة رضي الله عنها وأرضاها: أما علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم أباح لـ سالم مولى أبي حذيفة أن يفعل كذا وكذا -وروت لها الحديث- فأرضعيه يحرم عليك.

فكانت رضي الله عنها وأرضاها إذا أرادت أن يدخل عليها أحد من الأجانب الكبار تجعل أختها أو أحد أقاربها يرضعه، فتكون له خالة، فيحرم عليها، ويدخل عليها رضي الله عنها وأرضاها، وكان ذلك مذهباً ومنهجاً لـ عائشة وحدها رضي الله عنها وأرضاها.

هذا هو ما أجاب به الجمهور على من قال بأن رضاع الكبير يحرم.

القول الثاني: هو على العموم، فرضاع الكبير مباح، وهذا على ما أذكر قول ابن حزم إذا لم أكن واهماً، وهو قول طائفة من أهل العلم، بأن رضاع الكبير يحرم في كل الأحوال، فلو أراد الإنسان أن يدخل على امرأة، ويريد أن يكون محرماً لها، فتسافر به ويدخل عليها فليرضع منها، أو من أختها، وهذا القول من أضعف الأقوال، وهو أوهن من بيت العنكبوت.

القول الثالث: وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية، وبين أنه قول عطاء والليث بن سعد، وهو الفقيه المصري المحدث الذي قال فيه الشافعي: الليث أفقه من مالك لولا أن قومه لم يحملوه.

فشيخ الإسلام ابن تيمية بعدما ذكر قول عائشة والليث بن سعد وعطاء توسط بين قول جماهير العلماء وبين قول عائشة، وقال: أقول: هي واقعة عين لا يقاس عليها إلا مثلها، فشيخ الإسلام ابن تيمية نظر إلى قول عائشة فوجدها أباحته مطلقاً، وكذلك عطاء والليث ونظر إلى قول الجماهير وأم سلمة وزينب والأئمة الأربعة الذين حرموا رضاع الكبير، وقالوا: إنه خاص بـ سالم مولى أبي حذيفة.

ومعنى قول ابن تيمية: إنها واقعة عين لا يقاس عليها إلا مثلها: أنه من كان حاله كحال سالم أخذ حكم سالم، فإذا تربى ولد يتيم بين رجل وامرأة، ثم كبر سنه فخشي الرجل أن يرى امرأته، فإنه يجوز له الرضاع حتى يكون محرماً لهؤلاء النسوة.

وهذا هو القول الوسط، وهو الذي أميل إليه، فرضاع الكبير قضية خاصة بـ سالم، ولا تجوز مطلقاً، بل هي واقعة عين يقاس عليها مثلها، وأصول الشريعة توافقه؛ لأن المشقة تجلب التيسير، والحرج مرفوع عن الأمة، فهذا قول قوي، وهو الراجح في هذه المسألة.

<<  <  ج: ص:  >  >>