للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مرتبة العلم وقول أهل الحق فيها والرد على مخالفيهم]

المرتبة الأولى من مراتب الإيمان بالقدر العلم، وحقيقتها أن تؤمن وتعتقد اعتقاداً جازماً بأن الله جل في علاه قد أحاط بكل شيء علماً، قال الله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} [المائدة:٩٩]، وقال تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:١٩]، وقال تعالى: {يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ} [الرعد:٨].

وأيضًا قال الله تعالى: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [يوسف:١٩]، (ما) هنا من الأسماء المبهمة، قال العلماء: (ما): أصل من أصول العموم، يعني: كل ما تعملون.

وأيضًا قال الله تعالى في سورة الأنعام: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:٥٩]، فإن الله جل في علاه قد علم كل شيء، وبهذه المرتبة تستطيع أن ترد على المعتزلة، قال الشافعي: خاصموهم بالعلم، فإن أقروا فقد خصموا، وإن أنكروا فقد كفروا.

فهنا الإمام الشافعي يبين لنا أهمية هذه المرتبة في الرد على المعتزلة بقوله: خاصموهم بالعلم، فإن أقروا فقد خصموا، وإن أنكروا فقد كفروا، وهذه المقولة تحتاج لتفسير صحيح.

قال: (خاصموهم بالعلم)، فإن المعتزلة يقولون: القدر أنف، ولا يوجد شيء كتب قبل ذلك، والله جل في علاه لا يعلم شيئاً حتى يعمله العباد، فلا يعلم شيئاً مستقبلاً أبداً، ولا يعلم إلا ما مضى فقط، هذا قولهم والعياذ بالله! فقال الشافعي: خاصموهم بالعلم، فإذا أقروا بأن الله قد أحاط بكل شيء علماً فقد خصموا؛ لأن لله علماً، والإرادة تخضع لعلم الله جل في علاه، فأراد وخلق أفعالهم، وبهذا يكون المعتزلة قد خصموا، ولا يمكن أن يحتجوا عليكم بشيء بعد ذلك، أما إذا أنكروا علم الله، وهذا كان في المعتزلة قديماً، أما الذين في عصورنا الآن فيستحيون من ذلك، ولا يستطيعون إنكار العلم، ولكنهم ينكرون الخلق، فهم يقرون بالعلم، وينكرون الخلق، كما سنبين في المسائل المهمة في الرد على المعتزلة، والغرض المقصود خاصموهم بالعلم، فإن أقروا فقد خصموا؛ لأن الله علم فأراد، والإرادة تخضع للعلم، وإن أنكروا كفروا؛ لأن من أنكر صفة العلم فقد كفر.

لكن نذكر هنا حديثاً ظاهر يشكل على ما قلنا، فلا بد من توضيحه، والحديث هو: (قام النبي صلى الله عليه وسلم ليلاً، وذهب إلى البقيع يدعو لأهل البقيع، فغارت عائشة لما وجدت النبي صلى الله عليه وسلم انسل من جانبها، فأخذت بثيابها وذهبت خلفه يسرع فتسرع، وهي ظنت أنه ذاهبٌ إلى بعض نسائه، فوجدته قد ذهب إلى البقيع يرفع يديه ويدعو لأهل البقيع، فنظرت للنبي صلى الله عليه وسلم فوجدت ذلك، فاستدارت وأسرعت إلى البيت، فأسرع النبي صلى الله عليه وسلم وهي تسرع، حتى دخل عليها وصدرها يعلو وينخفض، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: ما لك يا عائش حاشية يا رابية، أي: عندك ربو، ما بك؟ فقالت له: يا رسول الله! الأمر كذا وكذا، فقال لها: أخبريني أو ليخبرني العليم الخبير، فقالت يا رسول الله)، وجه الإشكال هو: (قالت: يا رسول الله! أويعلم الله ما نكن في صدورنا؟ فوكزها النبي صلى الله عليه وسلم، وبين لها أن الله جل وعلا يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فهنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها ما كانت تعلم أن الله جل في علاه يعلم ما تخفي الصدور، وقالت: أويعلم الله ما نكن في صدورنا؟ وما كفَّرها النبي صلى الله عليه وسلم ولا اشتد عليها، بل علمها أن الله جل وعلا يعلم ما في الصدور، ونحن قلنا: إن المعتزلة إذا أنكروا علم الله كفروا، فكيف نحمل كلام عائشة رضي الله عنها؟

الجواب

القياس على عائشة قياس فاسد؛ لأن الشافعي قال: جادلوهم وبينوا لهم، أقيموا عليهم الحجة، فمحل النزاع بأن هذا كفر أو ليس بكفر إنما هو بعد إقامة الحجة، وهنا قد أقيمت عليهم الحجة فأنكروها، لكن عائشة ما أنكرت، علمها النبي صلى الله عليه وسلم فأقرت بما علمها النبي صلى الله عليه وسلم، فلا إشكال هنا.

إذاً: نحن نبين للمعتزلة علم الله جل في علاه السابق واللاحق، فإن أقروا أخذنا بكلامهم، وإن أنكروا كفروا بذلك، وأيضًا لا بد من التفريق بين كفر النوع وكفر العين، فهذه المرتبة الأولى وهي علم الله الذي أحاط بكل شيء، وأن الله جل في علاه يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف سيكون، وهذه تجمعها آية واحدة قالها موسى لهذا الخصم اللدود فرعون عندما قال في سورة طه: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى * قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى} [طه:٤٩ - ٥٢] أي: لا يضل ربي فيما يستقبل، ولا ينسى فيما سبق، وقد سبق علم الله جل في علاه في ما كان، ولذلك قص علينا ما حدث من الجن قبل آدم، قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة:٣٠]، وأيضًا قص الله علينا ما حدث بين الملائكة وبين آدم عندما عطس آدم، وقال: الحمد لله، وأيضًا لما أمر الله الملائكة بالسجود لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر، وقص علينا أيضاً ما حدث مع نوح وقومه، وقص علينا قصة موسى وقومه، فإن ربي لا ينسى علم ما كان، ويعلم ما يكون، والذي لم يحدث يعلمه الله جل في علاه، وهذا يتجلى معنا في الأحاديث النبوية والآيات الكريمات، كقول الله جل في علاه: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ} [الفتح:٢٧]، وهذا في المستقبل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعدما رد في صلح الحديبية عن البيت قال الله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح:٢٧]، وأيضًا قال النبي صلى الله عليه وسلم وحياً من ربه جل في علاه: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه)، وهذا أيضًا في المستقبل، فالله قد علم ما يكون، وعلم ما لم يكن لو كان كيف سيكون.

وهذا أيضًا يتجلى في الممكن والمستحيل، أما في الممكنات فقال الله تعالى عن الكافرين أو المنافقين: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:٢٣]، وهذا لم يحدث، لكن الله بين أنه لو حصل أو حدث كيف ستكون كيفيته وكينونته؟ أيضاً قال الله تعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لهَمْ} [التوبة:٤٧]، وهذا أيضًا لم يكن، لكن الله يعلم أنه لو كان كيف سيكون، فالله جل وعلا جعل التقاعس على أهل النفاق فلم يخرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن لو خرجوا، فإن الله يعلم كيف كان سيكون الحال، وقص الله علينا ذلك وقال: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة:٤٧].

هذا في الدنيا، وكذلك في الآخرة، فإن الله يعلم ما لم يكن لو كان كيف سيكون، قال الله عن أهل النيران بعدما وقفوا على النار: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام:٢٧]، فهذا لم يحدث، لكن لو حدث، والله جل وعلا قضى أن يخرجوا إلى الدنيا مرة ثانية، فهل سيكونون من أهل الحق، ويؤمنون بالله جل في علاه؟ الله جل وعلا يقول: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام:٢٨]، فالله علم ما لم يكن لو كان كيف سيكون، وهذا في المستحيل في الآخرة، والذي سبق في الممكن في الدنيا.

فالآية التي تكلمت عن المنافقين {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} [التوبة:٤٧]، هي في الممكنات، أما الآية: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام:٢٧] في الآخرة، ويستحيل أن يرجع أحد للدنيا، فهي في المستحيلات.

مثال آخر وهو حديث جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (أرأيت ماذا قال ربك لأبيك عندما قال له: تمن؟ قال: أرجع إلى الدنيا فأقتل فيك)، فقضى الله جل وعلا أنه لا يرجع أحد إلى الدنيا، فهذا ممكن ولا يستحيل على الله، ومن المستحيلات ما قال الله تعالى عنه: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:٢٢]، هذا في المستحيلات، فيستحيل أن تجد للكون إلهاً إلا الله وحده لا شريك له، ولو كان في الكون أكثر من إله، فقد بين الله لنا أنه سيحدث الفساد المستشري، فقال الله تعالى: {لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [المؤمنون:٩١]، وقال: {لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ س