للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أمثلة تبين تعظيم السلف للرسول وللعلماء]

إليكم الأمثلة التي تبين أن السلف كانوا يعظمون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويجلون قدر العلماء تعظيماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

هذا زيد بن ثابت عالم الأمة وفرضي هذه الأمة، الذي كان متقناً في كل شيء، في الفرائض وفي الحلال وفي الحرام، كان ابن عباس ذليلاً بين يدي زيد بن ثابت كما قدمنا، وكان يتعلم عليه العلم، وابن عباس خالف زيد في مسألة من المواريث فـ زيد كان يقول بأن الجد يشارك الإخوة، وابن عباس يرى أن الجد ينزل منزلة الأب، فقالوا له: كيف تقول بذلك وشيخك زيد يقول بغير قولك؟! قال ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه: ألا يتق الله زيد؟! أما علم أن الله جل في علاه قال: {مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ} [يوسف:٣٨]؟! فيوسف سمى إبراهيم أباً له وهو يعتبر جداً له فأنزله منزلة الأب.

وعائشة رضي الله عنه وأرضاها خالفت كثيراً من الصحابة بل استدركت على كثير من الصحابة، وهذا لم يوجد الشحناء بينهم بحال من الأحوال.

وكثير من أهل العلم خولفوا من طلابهم، فهذا الشافعي تعلم على يد مالك ومالك هو الذي نصحه وأعطاه ومنحه العلم ومع ذلك لما نزل مصر أظهر كتاباً كاملاً اسمه اختلاف مالك، وهذا لم يؤثر في مكانة الشافعي ولم يؤثر في مكانة مالك، وما زال الناس يتبعون الإمام مالك وما زال الناس يتبعون الشافعي، يعظمون هذا ويعظمون هذا.

والإمام أحمد خالف شيخه الشافعي الذي قال فيه: الشافعي للناس كالعافية للبدن والشمس للدنيا، ومع ذلك خالف الإمام الشافعي.

وهذا الإمام العلم الإمام النووي، قالوا عنه: لا يخرج عن الشافعية بحال من الأحوال، لكنه عندما يرى الدليل خلاف مذهب الشافعية يخرج عن الشافعية، فقد خرج عن الشافعية في أكثر من مسألة، ومن هذه المسائل: الوضوء من لحم الجزور وهي مسألة خلافية عريضة بين العلماء، فالإمام الشافعي والجمهور يرون أن حديث جابر ناسخ فلا وضوء من لحم الجزور، والإمام أحمد يرى الوضوء من لحم الجزور، فخرج النووي عن الشافعية من أجل الأثر والدليل، وما أحد عاب عليه ذلك ولا ذمه في ذلك.

فيجب علينا أن نتعبد لله جل في علاه بتوقير علمائنا ومعرفة جلالة قدرهم، ونعرف لهم حقهم، لكننا نعرف أيضاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم حقه، ولحديث النبي صلى الله عليه وسلم حقه، والمرء الذي من الله عليه بالطلب إذا قلد فقد ازدرى نعمة الله عليه.

إن الإمام ابن دقيق العيد كان على فراش الموت فكتب كتاباً، قالوا: إن هذه وصية لابد أن تنفذ، فبعد ما مات ابن دقيق العيد أخذوا هذا المكتوب فنظروا فيه فوجدوه يؤلف رسالة في تحريم التقليد، فهؤلاء العلماء يخرجون كثيراً عن أصل المذهب إذا رأوا الدليل إلى ذلك.

وابن عبد البر لا يخفى على أمثالكم فقد كان مالكياً يشرح كتب الإمام مالك وابن عبد البر أخذ بحديث البيعان بالخيار وهو لا يأخذ به الإمام مالك، فخالف مالكاً ووافق الجمهور في هذه المسألة.

حتى شيخ الإسلام احتار فيه بعض العلماء هل هو حنبلي أم مجتهد اجتهاداً مطلقاً؟ والغرض المقصود أنه خالف الإمام أحمد، وخرج عن المذهب في مسائل شتى، وكان يعظم كثيراً الدليل، فخرج عن الإمام أحمد في مسألة استلحاق ولد الزنا، فلو أن رجلاً زنى بامرأة وبعد ما زنى بها تاب وتابت وهي حامل فأراد الزواج منها، فالصحيح أنه لا يتزوجها إلا بشرطين اثنين: بعد التوبة وبعد العدة أي: بعد أن تضع، فقال الإمام أحمد: له أن يستلحق هذا الولد، يعني: ينسب له، وهذا مخالف لظاهر حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال عموماً ومطلقاً: (الولد للفراش وللعاهر الحجر)، فلا ينسب له، وقد خالف ابن تيمية الإمام أحمد؛ لأنه رأى أن هذا الدليل هو الدليل الأثري الصحيح الذي يوافق النظر.

وابن القيم كان يعظم شيخ الإسلام تعظيماً كبيراً ومع ذلك خالف شيخ الإسلام في مسألة الاستعانة بالجني المسلم على إخراج الجن، وشيخ الإسلام ابن تيمية اشتهرت عنه هذه المسألة وتابعه عليها الشيخ صالح بن عثيمين من المعاصرين رحمة الله عليه رحمة واسعة، فقد كان يقول بصحة الاستعانة بالجني المسلم، ويحتج على ذلك بحديث عن أبي موسى الأشعري ليس هذا مجال التفصيل فيه.

والغرض المقصود أن ابن القيم خالف شيخه وبين عدم جواز الاستعانة بالجن؛ لأنه غائب، ولا بد أن يكون حياً حاضراً.

ومحمد بن الحسن من أعلم الناس ومن أنجب تلاميذ الإمام أبي حنيفة وخالف أبا حنيفة مسائل كثيرة وجد أن النظر أقوى مما تبناه أبو حنيفة.

وابن عثيمين أفتى في مسألة مهمة جداً تشغل جميع طلبة العلم وهي مسألة هل كل مكة حرم أم المسجد الحرام فقط؟ فالشيخ ابن باز يرجح قول الجمهور بأن كل مكة حرم، وله أدلة كثيرة لست بصدد الكلام على هذه المسألة الفقهية، فهو يرى أن كل مكة حرم، فمن صلى في مسجد يبعد أميالاً عن المسجد الحرام وهو في الحرم فإن صلاته بمائة ألف صلاة، وأما الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين فيرى أن مائة ألف صلاة لا تكون إلا في المسجد الحرام، ودليله ما في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصلاة في مسجد الكعبة بمائة ألف صلاة) قال: فقد قيد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بالكعبة، لكن هذا فرد من أفراد العموم لا يخصص، فخالف شيخه ابن باز؛ لأنه رأى أن الدليل والأثر مع قوله مع إجلاله واحترامه لهذا الشيخ.