للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

نعم روي هذا الحديث من طرق مقبولة ليس فيها «قُلتُهُ أَوْ َلْم أَقُلْهُ» وليس فيه دلالة على ما يريد المخالف، فكل ما يدل عليه أنَّ من أدلة صدق الحديث أن يكون وِفْقَ ما جاءت به الشريعة من المحاسن، فإن جاء على غير ذلك كان دليلاً على كذبه، ونحن نقول به، ولكن أين فيه الدلالة على عدم حُجِيَّةِ السُنَّةِ؟. وأما الحديث الثالث: «إنِّى لاَ أُحِلُّ إِلاَّ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِى كِتَابِهِ وَلاَ أُحَرِّمُ إِلاَّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِى كِتَابِهِ» فقد قال السيوطي: أخرجه الشافعي والبيهقي من طريق طاووس. فال الشافعي: وهذا منقطع. وكذلك صنع - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبذلك أمر وافترض عليه أن يتبع ما أوحي إليه، ونشهد أن قد اتبعه، فإنما قبل بفرض الله تعالى. قال البيهقي: «وَقَوْلُهُ " فِي كِتَابِهِ ": إِنْ صَحَّتْ هَذِهِ فَإِنَّمَا أَرَادَ فِيمَا أَوْحَىَ اللهُ: ثُمَّ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا وَحْيٌ يُتْلَى، وَالآخَرُ وَحْيٌ لاَ يُتْلَى» (١)، وأنت ترى أنَّ االبيهقي فَسَّرَ الكتاب بما هو أعم من القراَن. وقد أطلق بهذا المعنى في حديث عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حيث قال لأبي الزاني بامرأة الرجل الذي صالحه على الغنم والخادم: «وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ، أَمَّا الْغَنَمُ وَالخَادمُ رَدٌّ عَلَيْكَ وَأَنَّ امْرَأَتَهُ تُرْجَمُ إِذَا اعْتَرَفَتْ» ولا مانع من إجراء الكتاب على المتبادر منه وهو القراَن، فإنَّ ما يحرمه أو يحله الرسول حلال أوحرام في كتاب الله الذي أمر بطاعته ونهى عن مخالفته.

أَمَّا رِوَايَةُ «لاَ يُمْسِكَنَّ النَّاسُ عَلَيَّ بِشَىْءٍ» فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: إنها من رواية طَاوُوسَ وهو حديث منقطع، ولو ثبت فمعناه أنه ليس للناس أن يقولوا كيف يُحَرِّمُ رَسُولُ اللهِ وَيُحِلُّ مَا لَيْسَ فِي القُرْآنِ؟ فَإِنَّ الرَّسُولَ مُشَرِّعٌ، وَهُوَ لاَ يُحِلُّ إلاَّ مَا كَانَ حَلاَلاً فِي شَرْعِ اللهِ، وَلاَ يُحَرِّمُ إلاَّ مَا كَانَ حَرَامًا.

بهذا يتين لك أنَّ هذه الأحاديث التي استند إليها صاحب الشُبْهَةِ، منها ما لم يثبت لدى أهل العلم، ومنها ما ثبت ولكنه ليس فيه دليل على دعواه، كيف وقد ثبت في السُنَّةِ الصحيحة مَا يَرُدُّ على صاحب الشُبْهَةِ وأمثاله، فقد روى الشافعي


(١) " مفتاح الجنة ": ص ١٩.