للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

في سبيل هذا التلاعب بالدين، يقع هذا بين سمعنا وبصرنا، ووقع لمن قبلنا وما زال الخلفاء والملوك منذ عصر الصحابة حتى اليوم يفعلون مثل هذا، فها هو أبو بكر يجمع ألقرآن في مصحف، وعمر يجمع الناس على التراويح وعثمان يُحَدِّث الأذان الأول يوم الجمعة خارج المسجد وعمر بن عبد العزيز يزيد في مسجد رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

وها هُمْ الملوك والرؤساء يُجَدِّدُونَ المساجد ويزيدون فيها وينقصون، ويتخذون من الحيطة لأنفسهم عند الذهاب إلى الصلاة ما يدفع عنهم خطراً متوهماً أو متوقعاً، فلماذا لا يعتبر عمل هؤلاء تَزَيُّداً في الدين يدل على انحراف عنه؟ ونعتبر مثل زيادة معاوية في درجات المنبر، واتخاذه المقصورة دليلاً على تغيير الحُكَّامِ الأُمَوِيِّينَ للحياة الدينية؟ إن المنبر غُيِّرَ على عهد الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حياته، فبعد أن كان رسول الله يقف بجانب جذع النخل، اتَّخَذَ مِنْبَرًا مِنْ ثَلاَثِ دَرَجَاتٍ، حين تزايد الناس في المسجد، واحتاج الأمر إلى مكان عال ليسمع البعيد كما يسمع القريب، فما الذي يمنع من زيادة الدرجات على هذا إذا اتسع المسجد أكثر من ذلك؟ وزاد الناس فيه عما كانوا عليه في حياة الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ لا شيء يمنع من هذا لا ديناً ولا شرعاً ولا تُقىً ولا وَرَعاً، وهذا هو ما فعله معاوية حين زاد درجات المنبر، أما اتخاذه المقصورة، فليس لتغيير الحياة الدينية، بل حيطة لنفسه من الاغتيال بعد أن تآمر الخوارج عليه وعلى عَلِيٍّ وعمرو بن العاص. فلما قُتِلَ عَلِيٌّ ونجا هو وعمرو، رأى من الحيطة أن لا يصلي مختلطاً بالناس بل في مقصورة تمنع عنه الأذى، وقد ذكر ذلك ابن خلدون في صريح العبارة (١).

أما الجلوس في الخطبة الثانية، فنحن نعترف بأنه تغيير من شكل العبادة بدأ به معاوية، ولكن لا تَعَمُّداً لهذا التغيير، بل اضطراراً حين كثر شحمه ولحمه، فلم يعد يستطيع الوقوف كثيراً، قال الشعبي: «أَوَّلُ مَنْ خَطَبَ النَّاسَ قَاعِدًا مُعَاوِيَةُ، وَذَلِكَ حِينَ كَثُرَ شَحْمُهُ وَعَظُمَ بَطْنُهُ» (٢) ومع ذلك فقد لقي من إنكار العلماء يومئذ


(١) " المقدمة ": ص ٢٩٩.
(٢) " تاريخ الخلفاء " للسيوطي: ص ١٤٣. نقلاً عن ابن قتيبة.