للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

والمُسْتَشْرِقُونَ، ومن لَفَّ لَفَّهُمْ يتظاهرون باستغراب قوة الحفظ عند أبي هريرة إلى هذا الحد، ولو نظروا إلى الأمر بعين الإنصاف، وعلى ضوء علم النفس وعلم الاجتماع، لما وجدوا فيه غرابة ولا بُعْدًا، فلكل أُمَّةٍ ميزة تمتاز بها على غيرها.

والحفظ من الميزات التي امتاز بها العرب، وفي الصحابة وكبار التَّابِعِينَ ومن بعدهم، من كان آية في سرعة الحفظ وقوة الذاكرة، ومن علم أن البخاري كان يحفظ ثلاثمائة ألف حديث بأسانيدها، وأن أحمد بن حنبل كان يحفظ ستمائة ألف حديث، وأن أبا زرعة كان يحفظ سبعمائة ألف حديث، لا يستغرب على أبي هريرة أن يحفظ ما حفظ، وكل أحاديثه التي أثرت عنه كما جاء في "مسند بقي بن مخلد "، خمسة آلاف وثلاثمائة وأربعة وسبعون حَدِيثًا، وما زال علماء العربية وكبار الشعراء قَدِيمًا وَحَدِيثًا يحفظون من الشعر والنثر ما لا يُعَدُّ شَيْئًا بجانبه حفظ أبي هريرة لأحاديثه التي حَدَّثَ بها، فها هو الأصمعي كان يحفظ خمسة عشر ألف أرجوزة من أراجيز العرب كما يذكر الرُوَاةُ.

ولقد ذكر الكاتب المُحَقِّقُ الأستاذ محب الدين الخطيب ما شاهده من حفظ الشيخ الشنقيطي - رَحِمَهُ اللهُ - ما يدعو إلى الدهشة، وإليك ما قاله في ذلك: «نحن نعرف معرفة شخصية الأستاذ العَلاَّمَة الشيخ أحمد بن الأمين الشنقيطي - رَحِمَهُ اللهُ - وكان يحفظ الشعر الجاهلي كله، ويحفظ شعر أبي العلاء المعري كله، ولو رحنا نَعُدُّ ما يحفظه لكان شيئاً عظيماً وكتابه " الوسيط في تراجم علماء وأدباء شنقيط " كتبه من أوله إلى آخره من حفظه إجابة لاقتراح شيخنا الشيخ طاهر الجزائري، وفي هذا الكتاب أنساب أهل شنقيط رجالاً ونساءً، وذكر قبائلهم وما نظموه وما يؤثر عنهم من مؤلفات وأخبار، ولم يكن لذلك مرجع يرجع إليه قبل كتاب " الوسيط " الذي ألفه الشيخ أحمد بن الأمين على ما نعرفه نحن شخصياً، فما حفظه أبو هريرة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - من أحاديث رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في طول صحبته لا يجيء في كميته شيئاً بجانب ما شاهدناه من محفوظ الشيخ الشنقيطي فضلاً عن غيره من رجال أُمَّتِنَا الممتازين بجودة الحفظ وقوة الذاكرة». اهـ. (١).


(١) " مجلة الفتح ": العدد ٧٢٥.